[ ص: 117 ] يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم يكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما
استئناف وانتقال إلى التحريض على الجهاد بمناسبة لطيفة ، فإنه انتقل من طاعة الرسول إلى ذكر أشد التكاليف ، ثم ذكر الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين ، وكان الحال أدعى إلى التنويه بشأن الشهادة دون بقية الخلال المذكورة معها الممكنة النوال .
وهذه الآية تشير لا محالة إلى تهيئة غزوة من غزوات المسلمين ، وليس في كلام السلف ذكر سبب نزولها ، ولا شك أنها لم تكن أول غزوة لأن غزوة بدر وقعت قبل نزول هذه السورة ، وكذلك غزوة أحد التي نزلت فيها سورة آل عمران ، وليست نازلة في غزوة الأحزاب لأن قوله فانفروا ثبات يقتضي أنهم غازون لا مغزوون .
ولعلها نزلت لمجرد التنبيه إلى قواعد الاستعداد لغزو العدو ، والتحذير من العدو الكاشح ، ومن العدو الكائد ، ولعلها إعداد لغزوة الفتح ، فإن هذه السورة نزلت في سنة ست ، وكان فتح مكة في سنة ثمان ، ولا شك أن تلك المدة كانت مدة اشتداد التألب من العرب كلهم لنصرة مشركي قريش والذب عن آلهتهم .
ويدل لذلك قوله بعد وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين إلخ ، وقوله فإن كان لكم فتح من الله فإن اسم الفتح أريد به فتح مكة في مواضع كثيرة كقوله فجعل من دون ذلك فتحا قريبا .
وابتدأ بالأمر بأخذ الحذر . وهي أكبر قواعد القتال لاتقاء خدع الأعداء . والحذر : هو توقي المكروه .
[ ص: 118 ] ومعنى ذلك أن لا يغتروا بما بينهم وبين العدو من هدنة صلح الحديبية ، فإن العدو وأنصاره يتربصون بهم الدوائر ، ومن بينهم منافقون هم أعداء في صورة أولياء ، وهم الذين عنوا بقوله وإن منكم لمن ليبطئن إلى فوزا عظيما .
ولفظ " خذوا " استعارة لمعنى شدة الحذر وملازمته ، لأن حقيقة الأخذ تناول الشيء الذي كان بعيدا عنك ، ولما كان النسيان والغفلة يشبهان البعد والإلقاء كان التذكر والتيقظ يشبهان أخذ الشيء بعد إلقائه ، كقوله خذ العفو ، وقولهم : أخذ عليه عهدا وميثاقا .
وليس الحذر مجازا في السلاح كما توهمه كثير ، فإن الله تعالى قال في الآية الأخرى وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ، فعطف السلاح عليه .
وقوله فانفروا ثبات أو انفروا جميعا تفريع عن أخذ الحذر لأنهم إذا أخذوا حذرهم تخيروا أساليب القتال بحسب حال العدو ، و انفروا بمعنى اخرجوا للحرب ، ومصدره النفر ، بخلاف نفر ينفر بضم الفاء في المضارع فمصدره النفور .
و " ثبات " بضم الثاء جمع " ثبة " بضم الثاء أيضا وهي الجماعة ، وأصلها ثبية أو ثبوة بالياء أو الواو ، والأظهر أنها بالواو ، لأن الكلمات التي بقي من أصولها حرفان وفي آخرها هاء التأنيث أصلها الواو نحو عزة وعضة فوزنها فعة .
وأما ثبة الحوض ، وهي وسطه الذي يجتمع فيه الماء فهي من ثاب يثوب إذا رجع ، وأصلها ثوبة فخففت فصارت بوزن فلة ، واستدلوا على ذلك بأنها تصغر على ثويبة ، وأن الثبة بمعنى الجماعة تصغر على ثبية . قال النحاس : ربما توهم الضعيف في اللغة أنهما واحد مع أن بينهما فرقا ، ومع هذا فقد جعلهما صاحب القاموس من واد واحد وهو حسن ، إذ قد تكون ثبة الحوض مأخوذة من الاجتماع إلا إذا ثبت اختلاف التصغير بسماع صحيح .
وانتصب " ثبات " على الحال ، لأنه في تأويل : متفرقين ، ومعنى جميعا جيشا واحدا .
وقوله وإن منكم لمن ليبطئن أي من جماعتكم وعدادكم ، والخبر الوارد فيهم ظاهر منه أنهم ليسوا بمؤمنين في خلوتهم ، لأن المؤمن إن أبطأ عن الجهاد لا يقول قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ، فهؤلاء منافقون ، وقد أخبر الله عنهم بمثل هذا صراحة في آخر هذه السورة بقوله بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما إلى قوله [ ص: 119 ] الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين .
وعلى كون المراد بـ من ليبطئن المنافقين حمل الآية مجاهد ، وقتادة ، . وقيل : أريد بهم ضعفة المؤمنين يتثاقلون عن الخروج إلى أن يتضح أمر النصر . قال وابن جريج الفخر وهذا اختيار جماعة من المفسرين ، وعلى هذا فمعنى منكم أي من أهل دينكم . وعلى كلا القولين فقد أكد الخبر بأقوى المؤكدات لأن هذا الخبر من شأنه أن يتلقى بالاستغراب .
وبطأ بالتضعيف قاصر ، بمعنى تثاقل في نفسه عن أمر ، وهو الإبطاء عن الخروج إبطاء بداعي النفاق أو الجبن . والإخبار بذلك يستتبع الإنكار عليه ، والتعريض به ، مع كون الخبر باقيا على حقيقته لأن مستتبعات التراكيب لا توصف بالمجاز .
وقوله فإن أصابتكم مصيبة تفريع عن ليبطئن ، إذ هذا الإبطاء تارة يجر له الابتهاج بالسلامة ، وتارة يجر له الحسرة والندامة .
( والمصيبة ) اسم لما أصاب الإنسان من شر ، والمراد هنا مصيبة الحرب أعني الهزيمة من قتل وأسر .
ومعنى أنعم الله علي الإنعام بالسلامة : فإن كان من المنافقين فوصف ذلك بالنعمة ظاهر ، لأن القتل عندهم مصيبة محضة إذ لا يرجون منه ثوابا; وإن كان من ضعفة المؤمنين فهو قد عد نعمة البقاء أولى من نعمة فضل الشهادة لشدة الجبن ، وهذا من تغليب الداعي الجبلي على الداعي الشرعي .
والشهيد على الوجه الأول : إما بمعنى الحاضر المشاهد للقتال ، وإما تهكم منه على المؤمنين مثل قوله هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله ; وعلى الوجه الثاني الشهيد بمعناه الشرعي وهو القتيل في الجهاد . وأكد قوله ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن ، باللام الموطئة للقسم وبلام جواب القسم وبنون التوكيد ، تنبيها على غريب حالته حتى ينزل سامعها منزلة المنكر لوقوع ذلك منه .
والمراد من الفضل الفتح والغنيمة . وهذا المبطئ يتمنى أن لو كان مع الجيش ليفوز فوزا عظيما ، وهو الفوز [ ص: 120 ] بالغنيمة والفوز بأجر الجهاد ، حيث وقعت السلامة والفوز برضا الرسول ، ولذلك أتبع " أفوز " بالمصدر والوصف بعظيم .
ووجه غريب حاله أنه أصبح متلهفا على ما فاته بنفسه ، وأنه يود أن تجري المقادير على وفق مراده ، فإذا قعد عن الخروج لا يصيب المسلمين فضل من الله .
وجملة ( كأن لم يكن بينكم وبينه مودة ) معترضة بين فعل القول ومقوله . والمودة الصحبة والمحبة; وإما أن يكون إطلاق المودة على سبيل الاستعارة الصورية إن كان المراد به المنافق ، وإما أن تكون حقيقة إن أريد ضعفة المؤمنين .
وشبه حالهم في حين هذا القول بحال من لم تسبق بينه وبين المخاطبين مودة حقيقية أو صورية ، فاقتضى التشبيه أنه كان بينه وبينهم مودة من قبل هذا القول .
ووجه هذا التشبيه أنه لما تمنى أن لو كان معهم وتحسر على فوات فوزه لو حضر معهم ، كان حاله في تفريطه رفقتهم يشبه حال من لم يكن له اتصال بهم بحيث لا يشهد ما أزمعوا عليه من الخروج للجهاد ، فهذا التشبيه مسوق مساق زيادة تنديمه وتحسيره ، أي أنه الذي أضاع على نفسه سبب الانتفاع بما حصل لرفقته من الخير ، أي أنه قد كان له من الخلطة مع الغانمين ما شأنه أن يكون سببا في خروجه معهم ، وانتفاعه بثواب النصر وفخره ونعمة الغنيمة .
وقرأ الجمهور ( لم يكن ) بياء الغيبة وهو طريقة في إسناد الفعل لما لفظه مؤنث غير حقيقي التأنيث ، مثل لفظ مودة هنا ، ولا سيما إذا كان فصل بين الفعل وفاعله . وقرأ ابن كثير ، وحفص ، ورويس عن يعقوب بالتاء الفوقية علامة المضارع المسند إلى المؤنث اعتبارا بتأنيث لفظ مودة .