منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون .
إنصاف لفريق منهم بعد أن جرت تلك المذام على أكثرهم .
والمقتصد يطلق على المطيع ، أي غير مسرف بارتكاب الذنوب ، واقف عند حدود كتابهم ، لأنه يقتصد في سرف نفسه ، ودليل ذلك مقابلته بقوله في الشق الآخر ساء ما يعملون . وقد علم من اصطلاح القرآن التعبير بالإسراف عن الاسترسال في الذنوب ، قال تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ، ولذلك يقابل بالاقتصاد ، أي الحذر من الذنوب ، واختير المقتصد لأن المطيعين منهم قبل الإسلام كانوا غير بالغين غاية الطاعة ، كقوله تعالى فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله .
فالمراد هنا تقسيم أهل الكتاب قبل الإسلام لأنهم بعد الإسلام قسمان سيئ العمل ، وهو من لم يسلم; وسابق في الخيرات ، وهم الذين أسلموا مثل عبد الله بن سلام ومخيريق . وقيل : المراد بالمقتصد غير المفرطين في بغض المسلمين ، وهم الذين لا آمنوا معهم ولا آذوهم ، وضدهم هم المسيئون [ ص: 255 ] بأعمالهم للمسلمين مثل كعب بن الأشرف . فالأولون بغضهم قلبي ، والآخرون بغضهم بالقلب والعمل السيئ . ويطلق المقتصد على المعتدل في الأمر ، لأنه مشتق من القصد ، وهو الاعتدال وعدم الإفراط . والمعنى مقتصدة في المخالفة والتنكر للمسلمين المأخوذ من قوله : وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا .
والأظهر أن يكون قوله : " ساء " فعلا بمعنى كان سيئا ، و " ما يعملون " فاعله ، كما قدره ابن عطية . وجعله في الكشاف بمعنى " بئس " فقدر قولا محذوفا ليصح الإخبار به عن قوله : وكثير منهم ، بناء على التزام عدم صحة عطف الإنشاء على الإخبار ، وهو محل جدال ، ويكون " ما يعملون " مخصوصا بالذم ، والذي دعاه إلى ذلك أنه رأى حمله على معنى إنشاء الذم أبلغ في ذمهم ، أي يقول فيهم ذلك كل قائل .