القول في صيغة القصر من قوله وهو الذي أنزل إلخ كالقول في نظيره السابق . و من في قوله من السماء ابتدائية لأن ماء المطر يتكون في طبقات الجو العليا الزمهريرية عند تصاعد البخار الأرضي إليها فيصير البخار كثيفا وهو السحاب ثم يستحيل ماء .
فالسماء اسم لأعلى طبقات الجو حيث تتكون الأمطار . وتقدم في قوله تعالى أو كصيب من السماء في سورة البقرة .
وعدل عن ضمير الغيبة إلى ضمير التكلم في قوله فأخرجنا على طريقة الالتفات .
والباء للسببية جعل الله الماء سببا لخروج النبات ، والضمير المجرور بالباء عائد إلى الماء .
والنبات اسم لما ينبت ، وهو اسم مصدر " نبت " ، سمي به النابت على طريقة المجاز الذي صار حقيقة شائعة فصار النبات اسما مشتركا مع المصدر .
[ ص: 399 ] و شيء مراد به صنف من النبات بقرينة إضافة نبات إليه . والمعنى : فأخرجنا بالماء ما ينبت من أصناف النبت . فإن النبت جنس له أنواع كثيرة ; فمنه زرع وهو ما له ساق لينة كالقصب ، ومنه شجر وهو ما له ساق غليظة كالنخل ، والعنب ; ومنه نجم وأب وهو ما ينبت لاصقا بالتراب ، وهذا التعميم يشير إلى أنها مختلفة الصفات والثمرات والطبائع والخصوصيات والمذاق ، وهي كلها نابتة من ماء السماء الذي هو واحد ، وذلك آية على عظم القدرة ، قال تعالى يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل وهو تنبيه للناس ليعتبروا بدقائق ما أودعه الله فيها من مختلف القوى التي سببت اختلاف أحوالها .
والفاء في قوله فأخرجنا به نبات كل شيء فاء التفريع .
وقوله فأخرجنا منه خضرا تفصيل لمضمون جملة فأخرجنا به نبات كل شيء ، فالفاء للتفصيل ، و ( من ) ابتدائية أو تبعيضية ، والضمير المجرور بها عائد إلى النبات ، أي فكان من النبت خضر ونخل وجنات وشجر ، وهذا تقسيم الجنس إلى أنواعه .
والخضر : الشيء الذي لونه أخضر ، يقال : أخضر وخضر كما يقال : أعور وعور ، ويطلق الخضر اسما للنبت الرطب الذي ليس بشجر كالقصيل والقضب . وفي الحديث الحديث . وهذا هو المراد هنا لقوله في وصفه وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها نخرج منه حبا متراكبا ، فإن الحب يخرج من النبت الرطب .
وجملة نخرج منه صفة لقوله خضرا لأنه صار اسما ، و ( من ) اتصالية أو ابتدائية ، والضمير المجرور بها عائد إلى خضرا .
والحب : هو ثمر النبات ، كالبر والشعير ، والزراريع كلها .
[ ص: 400 ] والمتراكب : الملتصق بعضه على بعض في السنبلة ، مثل القمح وغيره ، والتفاعل للمبالغة في ركوب بعضه بعضا .
وجملة ومن النخل من طلعها قنوان دانية عطف على فأخرجنا منه خضرا . ويجوز أن تكون معترضة ، والواو اعتراضية ، وقوله ومن النخل خبر مقدم و قنوان مبتدأ مؤخر .
والمقصود بالإخبار هنا التعجيب من خروج القنوان من الطلع وما فيه من بهجة ، وبهذا يظهر وجه تغيير أسلوب هذه الجملة عن أساليب ما قبلها وما بعدها ؛ إذ لم تعطف أجزاؤها عطف المفردات ، على أن موقع الجملة بين أخواتها يفيد ما أفادته أخواتها من العبرة والمنة .
والتعريف في النخل تعريف العهد الجنسي ، وإنما جيء بالتعريف فيه للإشارة إلى أنه الجنس المألوف المعهود للعرب ، فإن النخل شجرهم وثمره قوتهم وحوائطه منبسط نفوسهم ، ولك أن تجعله حالا من النخل اعتدادا بالتعريف اللفظي كقوله والزيتون والرمان مشتبها ، ويجوز أن يكون من طلعها بدل بعض من النخل بإعادة حرف الجر الداخل على المبدل منه .
و قنوان بكسر القاف جمع قنو بكسر القاف أيضا على المشهور فيه عند العرب غير لغة قيس وأهل الحجاز فإنهم يضمون القاف . فقنوان بالكسر جمع تكسير . وهذه الصيغة نادرة ، غير جمع " فعل " ( بضم ففتح ) و " فعل " ( بضم فسكون ) و " فعل " ( بفتح فسكون ) إذا كانا واويي العين و " فعال " .
والقنو : عرجون التمر ، كالعنقود للعنب ، ويسمى العذق - بكسر العين - ويسمى الكباسة بكسر الكاف .
والطلع : وعاء عرجون التمر الذي يبدو في أول خروجه يكون كشكل [ ص: 401 ] الأترجة العظيمة مغلقا على العرجون ، ثم ينفتح كصورة نعلين فيخرج منه العنقود مجتمعا ، ويسمى حينئذ الإغريض ، ثم يصير قنوا .
و دانية قريبة . والمراد قريبة التناول كقوله تعالى قطوفها دانية . والقنوان الدانية بعض قنوان النخل خصت بالذكر هنا إدماجا للمنة في خلال التذكير بإتقان الصنعة فإن المنة بالقنوان الدانية أتم ، والدانية هي التي تكون نخلتها قصيرة لم تتجاوز طول قامة المتناول ، ولا حاجة لذكر البعيدة التناول لأن الذكرى قد حصلت بالدانية وزادت بالمنة التامة .
و جنات بالنصب عطف على خضرا . وما نسب إلى أبي بكر عن عاصم من رفع ( جنات ) لم يصح .
وقوله من أعناب تمييز مجرور بـ ( من ) البيانية لأن الجنات للأعناب بمنزلة المقادير كما يقال جريب تمرا ، وبهذا الاعتبار عدي فعل الإخراج إلى الجنات دون الأعناب ، فلم يقل وأعنابا في جنات .
والأعناب جمع عنب وهو جمع عنبة ، وهو في الأصل ثمر شجر الكرم . ويطلق على شجرة الكرم عنب على تقدير مضاف ، أي شجرة عنب ، وشاع ذلك فتنوسي المضاف . قال الراغب : العنب يقال لثمرة الكرم وللكرم نفسه ا هـ .
ولا يعرف إطلاق المفرد على شجرة الكرم ، فلم أر في كلامهم إطلاق العنبة بالإفراد على شجرة الكرم ، ولكن يطلق بالجمع ، يقال : عنب ، مراد به الكرم ، كما في قوله تعالى فأنبتنا فيها حبا وعنبا ، ويقال : أعناب كذلك ، كما هنا ، وظاهر كلام الراغب أنه يقال : عنبة لشجرة الكرم ، فإنه قال : العنب يقال لثمرة الكرم وللكرم نفسه الواحدة عنبة .
والزيتون والرمان بالنصب عطف على جنات والتعريف فيهما [ ص: 402 ] الجنس كالتعريف في قوله ومن النخل . والمراد بالزيتون والرمان شجرهما . وهما في الأصل اسمان للثمرتين ثم أطلقا على شجرتيهما كما تقدم في الأعناب . وهاتان الشجرتان وإن لم تكونا مثل النخل في الأهمية عند العرب إلا أنهما لعزة وجودهما في بلاد العرب ولتنافس العرب في التفكه بثمرهما والإعجاب باقتنائهما ذكرا في مقام التذكير بعجيب صنع الله تعالى ومنته . وكانت شجرة الزيتون موجودة بالشام وفي سينا ، وشجرة الرمان موجودة بالطائف .
وقوله مشتبها وغير متشابه حال ومعطوف عليه ، والواو للتقسيم بقرينة أن الشيء الواحد لا يكون مشتبها وغير متشابه ، أي بعضه مشتبه وبعضه غير متشابه . وهما حالان من الزيتون والرمان معا ، وإنما أفرد ولم يجمع اعتبارا بإفراد اللفظ .
والتشابه والاشتباه مترادفان كالتساوي والاستواء ، وهما مشتقان من الشبه . والجمع بينهما في الآية للتفنن كراهية إعادة اللفظ ، ولأن اسم الفاعل من التشابه أسعد بالوقف لما فيه من مد الصوت بخلاف مشتبها . وهذا من بديع الفصاحة .
والتشابه : التماثل في حالة مع الاختلاف في غيرها من الأحوال ، أي بعض شجره يشبه بعضا وبعضه لا يشبه بعضا ، أو بعض ثمره يشبه بعضا وبعضه لا يشبه بعضا ، فالتشابه مما تقارب لونه أو طعمه أو شكله مما يتطلبه الناس من أحواله على اختلاف أميالهم ، وعد التشابه ما اختلف بعضه عن البعض الآخر فيما يتطلبه الناس من الصفات على اختلاف شهواتهم ، فمن أعواد الشجر غليظ ودقيق ، ومن ألوان ورقه قاتم وداكن ، ومن ألوان ثمره مختلف ومن طعمه كذلك ، وهذا كقوله تعالى ونفضل بعضها على بعض في الأكل . والمقصود من التقييد بهذه الحال التنبيه على أنها مخلوقة بالقصد والاختيار لا بالصدفة .
ويجوز أن تجعل هذه الحال من جميع ما تقدم من قوله نخرج منه حبا متراكبا ، [ ص: 403 ] فإن جميع ذلك مشتبه وغير متشابه . وجعله حالا من الزيتون لأنه المعطوف عليه وقدر لـ الرمان حالا أخرى تدل عليها الأولى ، بتقدير : والرمان كذلك . وإنما دعاه إلى ذلك أنه لا يرى تعدد صاحب الحال الواحدة ولا التنازع في الحال ونظره بإفراد الخبر بعد مبتدأ ومعطوف في قول الزمخشري الأزرق بن طرفة الباهلي ، جوابا لبعض بني قشير وقد اختصما في بئر فقال القشيري : أنت لص ابن لص :
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوي رماني
ولا ضير في هذا الإعراب من جهة المعنى لأن التنبيه إلى ما في بعض النبات من دلائل الاختيار يوجه العقول إلى ما في مماثله من أمثالها .وجملة انظروا إلى ثمره بيان للجمل التي قبلها المقصود منها الوصول إلى معرفة صنع الله تعالى وقدرته ، والضمير المضاف إليه في ثمره عائد إلى ما عاد إليه ضمير مشتبها من تخصيص أو تعميم .
والمأمور به هو نظر الاستبصار والاعتبار بأطواره .
والثمر : الجنى الذي يخرجه الشجر . وهو بفتح الثاء والميم في قراءة الأكثر ، جمع ثمرة بفتح الثاء والميم وقرأه حمزة والكسائي وخلف بضم الثاء والميم وهو جمع تكسير ، كما جمعت : خشبة على خشب ، وناقة على نوق .
والينع : الطيب والنضج . يقال : ينع ( بفتح النون ) يينع ( بفتح النون وكسرها ) ويقال : أينع يونع ينعا بفتح التحتية بعدها نون ساكنة .
و إذا ظرف لحدوث الفعل ، فهي بمعنى الوقت الذي يبتدئ فيه مضمون الجملة المضاف إليها ، أي حين ابتداء أثماره . وقوله وينعه لم يقيد بإذا أينع لأنه إذا ينع فقد تم تطوره وحان قطافه فلم تبق للنظر فيه عبرة لأنه قد انتهت أطواره .
[ ص: 404 ] وجملة إن في ذلكم لآيات علة للأمر بالنظر . وموقع ( إن ) فيه موقع لام التعليل ، كقول بشار :
إن ذاك النجاح في التبكير
والإشارة بـ ذلكم إلى المذكور كله من قوله وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء إلى قوله وينعه فتوحيد اسم الإشارة بتأويل المذكور ، كما تقدم في قوله تعالى عوان بين ذلك في سورة البقرة .و لقوم يؤمنون وصف للآيات . واللام للتعليل ، والمعلل هو ما في مدلول الآيات من مضمن معنى الدلالة والنفع . وقد صرح في هذا بأن الآيات إنما تنفع المؤمنين تصريحا بأنهم المقصود في الآيتين الأخريين بقوله " لقوم يعلمون وقوله لقوم يفقهون " ، وإتماما للتعريض بأن غير العالمين وغير الفاقهين هم غير المؤمنين يعني المشركين .