فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين
هذا محل العبرة من القصة ، فهو مفرع عليها تفريع النتيجة على المقدمات والفذلكة على القصة ، فإنه بعد أن وصف موسى واقتراحهم على موسى أن يجيء بآية ومشاهدتهم آية عناد فرعون وملئه وتكذيبهم رسالة موسى بالسحر ، وسوء المقصد ، ومعارضة السحرة معجزة انقلاب العصا ثعبانا ، وتغيير لون يده ، ورميهم موسى وتغلب موسى عليهم ، وكيف أخذ الله آل فرعون بمصائب جعلها آيات على صدق موسى ، وكيف كابروا وعاندوا ، حتى ألجئوا إلى أن وعدوا موسى بالإيمان وتسريح بني إسرائيل معه وعاهدوه على ذلك ، فلما كشف عنهم الرجز نكثوا ، فأخبر الله بأن ذلك ترتب عليه استئصال المستكبرين المعاندين ، وتحرير المؤمنين الذين كانوا مستضعفين .
وذلك محل العبرة ، فلذلك كان الموقع في عطفه لفاء الترتيب والتسبب ، وقد اتبع في هذا الختام الأسلوب التي اختتمت به القصص التي قبل هذا .
والانتقام افتعال ، وهو العقوبة الشديدة الشبيهة بالنقم ، وهو غضب الحنق على ذنب اعتداء على المنتقم ينكر ويكره فاعله .
وأصل صيغة الافتعال أن تكون لمطاوعة فعل المتعدي بحيث يكون فاعل المطاوعة هو مفعول الفعل المجرد ، ولم يسمع أن قالوا نقمه فانتقم ، أي أحفظه وأغضبه فعاقب ، فهذه المطاوعة أميت فعلها المجرد ، وعدوه إلى المعاقب بمن الابتدائية للدلالة على أنه منشأ العقوبة وسببها وأنه مستوجبها ، وتقدم الكلام على المجرد من هذا الفعل عند قوله - تعالى - آنفا وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا .
[ ص: 75 ] وكان إغراقهم انتقاما من الله لذاته لأنهم جحدوا انفراد الله بالإلاهية ، أو جحدوا إلاهيته أصلا ، وانتقاما أيضا لبني إسرائيل لأن فرعون وقومه ظلموا بني إسرائيل وأذلوهم واستعبدوهم باطلا .
والإغراق : الإلقاء في الماء المستبحر الذي يغمر الملقى فلا يترك له تنفسا ، وهو بيان للانتقام وتفصيل لمجمله ، فالفاء في قوله فأغرقناهم للترتيب الذكري ، وهو عطف مفصل على مجمل كما في قوله - تعالى - فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم .
وحمل صاحب الكشاف الفعل المطلوب عليه هنا على معنى العزم فيكون المعنى : فأردنا الانتقام منهم فأغرقناهم ، وقد تقدم تحقيقه عند قوله - تعالى - فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم في سورة البقرة .
واليم : البحر والنهر العظيم ، قيل هو كلمة عربية . وهو صنيع الكشاف إذ جعله مشتقا من التيمم ؛ لأنه يقصد للمنتفعين به ، وقال بعض اللغويين : هو معرب عن السريانية وأصله فيها " يما " وقال شيدلة : هو من القبطية ، وقال : هو من العبرية ، ولعله موجود في هذه اللغات . ولعل أصله عربي وأخذته لغات أخرى سامية من العربية والمراد به هنا ابن الجوزي بحر القلزم ، المسمى في التوراة " بحر سوف " ، وهو البحر الأحمر . وقد أطلق اليم على نهر النيل في قوله - تعالى - أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم وقوله فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ، فالتعريف في قوله ( اليم ) هنا تعريف العهد الذهني عند علماء المعاني المعروف بتعريف الجنس عند النحاة إذ ليس في العبرة اهتمام ببحر مخصوص ولكن بفرد من هذا النوع .
وقد البحر الأحمر حين لحق بني إسرائيل يريد صدهم عن الخروج من أرض مصر وتقدمت الإشارة إلى ذلك في سورة البقرة وسيأتي تفصيله عند قوله - تعالى - حتى إذا أدركه الغرق في سورة يونس . أغرق فرعون وجنده في
والباء في بأنهم للسببية ، أي : أغرقناهم جزاء على تكذيبهم بالآيات .
والغفلة ذهول الذهن عن تذكر شيء ، وتقدمت في قوله - تعالى - وإن كنا عن دراستهم لغافلين في سورة الأنعام ، وأريد بها التغافل عن عمد وهو الإعراض عن التفكر في الآيات ، وإباية النظر في دلالتها على صدق موسى ، فإطلاق الغفلة على هذا مجاز ، [ ص: 76 ] وهذا تعريض بمشركي العرب في إعراضهم عن التفكر في صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ودلالة معجزة القرآن ، فلذلك أعيد التصريح بتسبب الإعراض في غرقهم مع استفادته من التفريع بالفاء في قوله فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم تنبيها للسامعين للانتقال من القصة إلى العبرة .
وقد صيغ الإخبار عن إعراضهم بصيغة الجملة الاسمية للدلالة على أن هذا الإعراض ثابت لهم ، وراسخ فيهم ، وأنه هو علة التكذيب المصوغ خبره بصيغة الجملة الفعلية لإفادة تجدده عند تجدد الآيات .