والتحقيق أن كونهما جوهرين نفيسين . هما ثمن الأشياء غالبا في جميع أقطار الدنيا ، وهو قول علة الربا في النقدين مالك ، والعلة فيهما قاصرة عليهما عندهما ، وأشهر الروايات عن والشافعي أحمد أن العلة فيهما كون كل منهما موزون جنس ، وهو مذهب أبي حنيفة . وأما البر والشعير والتمر والملح فعلة الربا فيها عند مالك الاقتيات والادخار ، وقيل وغلبة العيش فلا يمنع ربا الفضل عند مالك وعامة أصحابه إلا في الذهب بالذهب والفضة بالفضة ، والطعام المقتات المدخر بالطعام المقتات المدخر ، وقيل يشترط مع الاقتيات والادخار غلبة العيش ، وإنما جعل مالك العلة ما ذكر ; لأنه أخص أوصاف الأربعة المذكورة ، ونظم بعض المالكية ما فيه ربا النساء وربا الفضل عند مالك في بيتين وهما : [ الطويل ]
رباء نسا في النقد حرم ومثله طعام وإن جنساهما قد تعددا وخص ربا فضل بنقد ومثله
طعام الربا إن جنس كل توحدا
وكل ما يذاق من طعام ربا النسا فيه من الحرام
مقتاتا أو مدخرا أو لا اختلف ذاك الطعام جنسه أو ائتلف
وإن يكن يطعم للدواء مجردا فالمنع ذو انتفاء
ولربا الفضل شروط يحرم بها وبانعدامها ينعدم
هي اتحاد الجنس فيما ذكرا مع اقتياته وأن يدخرا
وما لحد الادخار مدة والتادلي بستة قد حده
والخلف في اشتراط كونه اتخذ للعيش عرفا ، وبالإسقاط أخذ
تظهر فائدته في أربع غلبة العيش بها لم تقع
والأربع التي حوى ذا البيت بيض وتين وجراد زيت
في البيض والزيت الربا قد انحظر رعيا لكون شرطها لم يعتبر
[ ص: 175 ] وقد رعي اشتراطها في المختصر في التين وحده ففيه ما حظر
ورعي خلف في الجراد باد لذكره الخلاف في الجراد
وحبة بحبتين تحرم إذ الربا قليله محرم
ثم ذكرت بعد ذلك الخلاف في ربوية البيض بقولي : [ الرجز ]
وقول إن البيض ما فيه الربا إلى الإمام نسبا ابن شعبان
وأصح الروايات عن أن الشافعي في الأربعة الطعم ، فكل مطعوم يحرم فيه عنده الربا كالأقوات ، والإدام ، والحلاوات ، والفواكه ، والأدوية . واستدل على أن العلة الطعم بما رواه علة الربا مسلم من حديث معمر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " " الحديث . والطعام اسم لكل ما يؤكل ، قال تعالى : الطعام بالطعام مثلا بمثل كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل الآية [ 3 \ 93 ] ، وقال تعالى : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا الآية [ 80 \ 24 \ 28 ] ، وقال تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم [ 5 \ 5 ] ، والمراد : ذبائحهم .
وقالت عائشة رضي الله عنها : ، وعن مكثنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة ما لنا طعام إلا الأسودان التمر والماء أبي ذر - رضي الله عنه - في حديثه الطويل في قصه إسلامه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " رواه فمن كان يطعمك ؟ " قلت : ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني ، قال : " إنها مباركة ، إنها طعام طعم مسلم .
وقال لبيد : [ الكامل ]
لمعفر قهد تنازع شلوه غبس كواسب لا يمن طعامها
يعني بطعامها الفريسة ، قالوا : والنبي - صلى الله عليه وسلم - علق في هذا الحديث الربا على اسم الطعام ، والحكم إذا علق على اسم مشتق دل على أنه علته ، كالقطع في السرقة في قوله : والسارق والسارقة الآية [ 5 \ 38 ] ، قالوا : ولأن الحب ما دام مطعوما يحرم فيه الربا ، فإذا زرع وخرج عن أن يكون مطعوما لم يحرم فيه الربا ، فإذا انعقد الحب وصار مطعوما حرم فيه الربا ، فدل على أن العلة فيه كونه مطعوما ، ولذا كان الماء يحرم فيه الربا على أحد الوجهين عند الشافعية ; لأن الله تعالى قال : إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني [ 2 \ 249 ] [ ص: 176 ] ولقول عائشة المتقدم : ما لنا طعام إلا الأسودان الماء والتمر ، ولقول الشاعر : [ الطويل ]
فإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
والنقاخ : الماء البارد ، هذا هو حجة الشافعية في أن علة الربا في الأربعة الطعم ، فألحقوا بها كل مطعوم ; للعلة الجامعة بينهما .
قال مقيده عفا الله عنه : الاستدلال بحديث معمر المذكور على أن علة الربا الطعم لا يخلو عندي من نظر ، والله تعالى أعلم ; لأن معمرا المذكور لما قال : قد كنت أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " " . قال الطعام بالطعام مثلا بمثل عقبه : وكان طعامنا يومئذ الشعير كما رواه عنه أحمد ومسلم ، وهذا صريح في أن الطعام في عرفهم يومئذ الشعير ، وقد تقرر في الأصول أن ، وعقده في " مراقي السعود " بقوله في مبحث المخصص المنفصل عاطفا على ما يخصص العموم : [ الرجز ] العرف المقارن للخطاب من مخصصات النص العام
والعرف حيث قارن الخطابا ودع ضمير البعض والأسبابا
وأشهر الروايات عن أحمد أن علة الربا في الأربعة كونها مكيلة جنس ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وعليه يحرم الربا في كل مكيل ، ولو غير طعام كالجص والنورة والأشنان . واستدلوا بما رواه عن الدارقطني عبادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " وأنس بن مالك " ، قال العلامة ما وزن مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا وما كيل فمثل ذلك ، فإذا اختلف النوعان فلا بأس به الشوكاني في " نيل الأوطار " : حديث أنس وعبادة أشار إليه في " التلخيص " ولم يتكلم عليه ، وفي إسناده وثقه الربيع بن صبيح أبو زرعة وغيره ، وضعفه جماعة ، وقد أخرج هذا الحديث البزار أيضا ، ويشهد لصحته حديث عبادة المذكور أولا وغيره من الأحاديث . اهـ منه بلفظه .
واستدلوا أيضا بما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد ، : وأبي هريرة " ، وقال : في الميزان مثل ذلك ، ووجه [ ص: 177 ] الدلالة منه ، أن قوله في الميزان ، يعني في الموزون ; لأن نفس الميزان ليست من أموال الربا ، واستدلوا أيضا بحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلا على خيبر ، فجاءهم بتمر جنيب ، فقال : " أكل تمر خيبر هكذا " قال : إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة ، فقال : " لا تفعل ، بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا أبي سعيد المتقدم الذي أخرجه الحاكم من طريق حيان بن عبيد الله ، فإن فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " " ، ثم قال : " وكذلك ما يكال أو يوزن أيضا " وأجيب من جهة المانعين بأن حديث التمر بالتمر ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، يدا بيد ، عينا بعين ، مثلا بمثل ، فمن زاد فهو ربا لم يثبت ، وكذلك حديث الدارقطني الحاكم ، وقد بينا سابقا ما يدل على ثبوت حديث حيان المذكور ، وقد ذكرنا آنفا كلام الشوكاني في أن حديث أخرجه الدارقطني البزار أيضا ، وأنه يشهد لصحته حديث وغيره من الأحاديث ، وأن عبادة بن الصامت وثقه الربيع بن صبيح أبو زرعة وغيره ، وضعفه جماعة ، وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : صدوق سيئ الحفظ ، وكان عابدا مجاهدا ، ومراد الشوكاني بحديث عبادة المذكور ، هو ما أخرجه عنه مسلم ، ، والإمام أحمد ، والنسائي ، وابن ماجه وأبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " " اهـ . فإن قوله صلى الله عليه وسلم : " الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، سواء بسواء ، يدا بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدل على الضبط بالكيل والوزن ، وهذا القول أظهرها دليلا . سواء بسواء ، مثلا بمثل "
وأجابوا عن حديث أبي سعيد المتفق عليه بثلاثة أجوبة :
الأول : جواب البيهقي قال : وقد قيل : إن قوله وكذلك الميزان ، من كلام موقوف عليه . أبي سعيد الخدري
الثاني : جواب وآخرين أن ظاهر الحديث غير مراد ; لأن الميزان نفسه لا ربا فيه ، وأضمرتم فيه الموزون ، ودعوى العموم في المضمرات لا تصح . القاضي أبي الطيب
الثالث : حمل الموزون على الذهب والفضة جمعا بين الأدلة ، والظاهر أن هذه الإجابات لا تنهض ; لأن وقفه على أبي سعيد خلاف الظاهر ، وقصد ما يوزن بقوله : وكذلك الميزان لا لبس فيه ، وحمل الموزون على الذهب والفضة فقط خلاف الظاهر ، والله تعالى أعلم .
وفي علة الربا في الأربعة مذاهب أخر غير ما ذكرنا عن الأئمة الأربعة ومن [ ص: 178 ] وافقهم :
الأول : أهل الظاهر ومن وافقهم أنه لا ربا أصلا في غير الستة ، ويروى هذا القول عن مذهب ، طاوس ومسروق ، ، والشعبي وقتادة ، . وعثمان البتي
الثاني : مذهب أبي بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم أن العلة فيها كونها منتفعا بها ، حكاه عنه القاضي حسين .
الثالث : مذهب ، ابن سيرين من الشافعية أن العلة الجنسية ; فيحرم الربا في كل شيء بيع بجنسه كالتراب بالتراب متفاضلا ، والثوب بالثوبين ، والشاة بالشاتين . وأبي بكر الأودني
الرابع : مذهب أن العلة المنفعة في الجنس ، فيجوز عنده بيع ثوب قيمته دينار بثوبين قيمتهما دينار ، ويحرم بيع ثوب قيمته دينار بثوب قيمته دينارين . الحسن البصري
الخامس : مذهب أن العلة تقارب المنفعة في الجنس ، فحرم التفاضل في الحنطة بالشعير ، والباقلي بالحمص ، والدخن بالذرة مثلا . سعيد بن جبير
السادس : مذهب أن العلة كونه جنسا تجب فيه الزكاة ; فحرم الربا في كل جنس تجب فيه الزكاة كالمواشي والزرع وغيرها . ربيعة بن أبي عبد الرحمن
السابع : مذهب وقول سعيد بن المسيب في القديم : إن العلة كونه مطعوما يكال أو يوزن ونفاه عما سواه ، وهو كل ما لا يؤكل ولا يشرب ، أو يؤكل ولا يكال ولا يوزن كالسفرجل والبطيخ ، وقد تركنا الاستدلال لهذه المذاهب والمناقشة فيها خوف الإطالة المملة . الشافعي