قال بعض العلماء : معنى هذه الآية أن الشيطان يأمرهم بالكفر وتغيير فطرة [ ص: 309 ] الإسلام التي خلقهم الله عليها ، وهذا القول يبينه ويشهد له قوله تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله [ 30 \ 30 ] ، إذ المعنى على التحقيق لا تبدلوا فطرة الله التي خلقكم عليها بالكفر . فقوله : لا تبديل لخلق الله ، خبر أريد به الإنشاء إيذانا بأنه لا ينبغي إلا أن يمتثل ، حتى كأنه خبر واقع بالفعل لا محالة ، ونظيره قوله تعالى : فلا رفث ولا فسوق الآية [ 2 \ 197 ] ، أي : لا ترفثوا ، ولا تفسقوا ، ويشهد لهذا ما ثبت في " الصحيحين " من حديث رضي الله عنه قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أبي هريرة ، وما رواه " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تجدون فيها من جدعاء " مسلم في " صحيحه " عن عياض بن حمار بن أبي حمار التميمي ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : . " إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم "
وأما على القول بأن المراد في الآية بتغيير خلق الله خصاء الدواب ، والقول بأن المراد به الوشم ، فلا بيان في الآية المذكورة ، وبكل من الأقوال المذكورة قال جماعة من العلماء : وتفسير بعض العلماء لهذه الآية بأن المراد بها خصاء الدواب يدل على عدم جوازه ; لأنه مسوق في معرض الذم واتباع تشريع الشيطان ، أما فهو حرام إجماعا ; لأنه مثلة وتعذيب وقطع عضو ، وقطع نسل من غير موجب شرعي ، ولا يخفى أن ذلك حرام . خصاء بني آدم
وأما فرخص فيه جماعة من أهل العلم إذا قصدت به المنفعة إما لسمن أو غيره ، وجمهور العلماء على أنه لا بأس أن يضحى بالخصي ، واستحسنه بعضهم إذا كان أسمن من غيره ، ورخص في خصاء الخيل خصاء البهائم ، وخصى عمر بن عبد العزيز بغلا له ، ورخص عروة بن الزبير مالك في خصاء ذكور الغنم ، وإنما جاز ذلك ; لأنه لا يقصد به التقرب إلى غير الله ، وإنما يقصد به تطييب لحم ما يؤكل وتقوية الذكر إذا انقطع أمله عن الأنثى ، ومنهم من كره ذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : قاله " إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون " . القرطبي ، واختاره ابن المنذر قال : لأن ذلك ثابت عن وكان يقول هو : نماء خلق الله ، وكره ذلك ابن عمر . عبد الملك بن مروان
وقال : كانوا يكرهون خصاء كل شيء له نسل . الأوزاعي
[ ص: 310 ] وقال ابن المنذر : وفيه حديثان :
أحدهما : عن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عمر " خصاء الغنم والبقر والإبل والخيل . " نهى عن
والآخر : حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عباس ، والذي في " الموطأ " من هذا الباب ما ذكره عن " نهى عن صبر الروح وخصاء البهائم " نافع عن أنه كان يكره الإخصاء ، ويقول : فيه تمام الخلق . ابن عمر
قال أبو عمر ، يعني في ترك الإخصاء : تمام الخلق ، وروي نماء الخلق .
قال القرطبي : بعد أن ساق هذا الكلام الذي ذكرنا : قلت : أسند أبو محمد عبد الغني من حديث عمر بن إسماعيل ، عن نافع ، عن ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ابن عمر " لا تخصوا ما ينمي خلق الله " رواه عن شيخه قال : حدثنا الدارقطني ، حدثنا عباس بن محمد قراد ، حدثنا أبو مالك النخعي عن عمر بن إسماعيل فذكره .
قال : ورواه الدارقطني عن عبد الصمد بن النعمان أبي مالك . اهـ من القرطبي بلفظه ، وكذلك على القول بأن المراد بتغيير خلق الله الوشم ، فهو يدل أيضا على أن حرام . الوشم
وقد ثبت في الصحيح عن رضي الله عنه أنه قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز وجل ، ثم قال : ألا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله عز وجل ، يعني قوله تعالى : ابن مسعود وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] .
وقالت طائفة من العلماء : المراد بتغيير خلق الله في هذه الآية هو أن الله تعالى خلق الشمس والقمر والأحجار والنار وغيرها من المخلوقات للاعتبار وللانتفاع بها ، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة .
وقال : إن الله تعالى خلق الأنعام لتركب وتؤكل ، فحرموها على أنفسهم وجعل الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس ، فجعلوها آلهة يعبدونها ، فقد غيروا ما خلق الله . الزجاج
[ ص: 311 ] وما روي عن رحمه الله من أنه كان لا يحضر نكاح سوداء بأبيض ولا بيضاء بأسود ، ويقول : هذا من قول الله تعالى : طاوس فليغيرن خلق الله [ 14 \ 119 ] ، فهو مردود بأن اللفظ وإن كان يحتمله ، فقد دلت السنة على أنه غير مراد بالآية فمن ذلك إنفاذه - صلى الله عليه وسلم - نكاح مولاه رضي الله عنه وكان أبيض بظئره زيد بن حارثة ، وكانت حبشية سوداء ، ومن ذلك إنكاحه - صلى الله عليه وسلم - بركة أم أسامة أسامة بن زيد وكانت بيضاء قرشية فاطمة بنت قيس وأسامة أسود ، وكانت تحت بلال أخت من عبد الرحمن بن عوف بني زهرة بن كلاب ، وقد سها رحمه الله مع علمه وجلالته عن هذا . طاوس
قال مقيده - عفا الله عنه - : ويشبه قول هذا في هذه الآية ما قال بعض علماء المالكية من أن السوداء تزوج بولاية المسلمين العامة بناء على أن طاوس مالكا يجيز تزويج الدنية بولاية عامة مسلما إن لم يكن لها ولي خاص مجبر . قالوا : والسوداء دنية مطلقا ; لأن السواد شوه في الخلقة وهذا القول مردود عند المحققين من العلماء ، والحق أن السوداء قد تكون شريفة ، وقد تكون جميلة ، وقد قال بعض الأدباء : [ الوافر ]
وسوداء الأديم تريك وجها ترى ماء النعيم جرى عليه رآها ناظري فرنا إليها
وشكل الشيء منجذب إليه
وقال آخر : [ الوافر ]
ولي حبشية سلبت فؤادي ونفسي لا تتوق إلى سواها
كأن شروطها طرق ثلاث تسير بها النفوس إلى هواها
وقال آخر في سوداء : [ السريع ]
أشبهك المسك وأشبهته قائمة في لونه قاعده
لا شك إذ لونكما واحد أنكما من طينة واحده
وأمثاله في كلام الأدباء كثيرة .
وقوله : ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام [ 4 \ 119 ] يدل على أن لا يجوز وهو كذلك . أما تقطيع آذان الأنعام فهو كفر بالله إجماعا ، وأما تقطيع آذان البهائم لغير ذلك فالظاهر أيضا أنه لا يجوز ، ولذا قطع أذن البحيرة والسائبة تقربا بذلك للأصنام . أخرجه أمرنا - صلى الله عليه وسلم - : " أن نستشرف العين ، والأذن ، ولا نضحي بعوراء ، ولا مقابلة ، ولا مدابرة ، [ ص: 312 ] ولا خرقاء ، ولا شرقاء " أحمد ، وأصحاب السنن الأربع ، ، والبزار ، وابن حبان والحاكم ، والبيهقي من حديث علي رضي الله عنه وصححه الترمذي ، وأعله ، والمقابلة المقطوعة طرف الأذن ، والمدابرة المقطوعة مؤخر الأذن ، والشرقاء مشقوقة الأذن طولا ، والخرقاء التي خرقت أذنها خرقا مستديرا ، فالعيب في الأذن مراعى عند جماعة العلماء . الدارقطني
قال مالك والليث : المقطوعة الأذن لا تجزئ ، أو جل الأذن قاله القرطبي ، والمعروف من مشهور مذهب مالك أن الذي يمنع الإجزاء قطع ثلث الأذن فما فوقه لا ما دونه فلا يضر ، وإن كانت سكاء وهي التي خلقت بلا أذن . فقال مالك ، : لا تجزئ ، وإن كانت صغيرة الأذن أجزأت ، وروي عن والشافعي أبي حنيفة مثل ذلك ، وإن كانت مشقوقة الأذن للميسم أجزأت عند ، وجماعة الفقهاء ، قاله الشافعي القرطبي في تفسير هذه الآية ، والعلم عند الله تعالى .