قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=8nindex.php?page=treesubj&link=29030للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون .
في هذه الآية الكريمة
nindex.php?page=treesubj&link=31104وصف شامل للمهاجرين في دوافع الهجرة ، أنهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=8يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، وغايتها ، وهي :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=8وينصرون الله ورسوله ، والحكم لهم بأنهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=8أولئك هم الصادقون .
ومنطوق هذه الأوصاف يدل بمفهومه أنه خاص بالمهاجرين ، مع أنه جاءت نصوص أخرى تدل على مشاركة
الأنصار لهم فيه ، منها قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=72إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض [ 8 \ 72 ] ، وقوله تعالى بعدها :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=74والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا [ 8 \ 74 ] .
فذكر المهاجرين بالجهاد بالمال والنفس ، وذكر معهم
الأنصار بالإيواء والنصر ، ووصف الفريقين معا بولاية بعضهم لبعض ، وأثبت لهم معا حقيقة الإيمان : أولئك هم المؤمنون حقا ، أي : الصادقون في إيمانهم ، فاستوى
الأنصار مع
المهاجرين في عامل النصرة وفي صدق الإيمان .
وفي قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ ص: 43 ] [ 59 \ 9 ] ، وصف شامل
للأنصار ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9تبوءوا الدار ) أي :
المدينة ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9والإيمان من قبلهم ) أي : بيعة
العقبة الأولى والثانية من قبل مجيء
المهاجرين ، بل ومن قبل إيمان بعض
المهاجرين ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9يحبون من هاجر إليهم ) ويستقبلونه بصدور رحبة ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9ويؤثرون ) غيرهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) ، لأنهم هاجروا إليهم .
وظاهر النصوص تدل بمفهومها أن غيرهم لم يشاركهم في هذه الصفات ، ولكن في الآية الأولى ما يدل لمشاركة
المهاجرين الأنصار في هذا الوصف الكريم ، وهو الإيثار على النفس ، لأن
nindex.php?page=treesubj&link=19917_19912حقيقة الإيثار على النفس هو بذل المال للغير عند حاجته مقدما غيره على نفسه ، وهذا المعنى بالذات سبق أن كان من
المهاجرين أنفسهم المنصوص عليه في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=8للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم [ 59 \ 8 ] ، فكانت لهم ديار ، وكانت عندهم أموال وأخرجوا منها كلها ، فلئن كان
الأنصار واسوا إخوانهم
المهاجرين ببعض أموالهم ، وقاسموهم ممتلكاتهم ، فإن
المهاجرين لم ينزلوا عن بعض أموالهم فحسب ، بل تركوها كلها : أموالهم ، وديارهم ، وأولادهم ، وأهلهم ، فصاروا فقراء بعد إخراجهم من ديارهم وأموالهم ، ومن يخرج من كل ماله ودياره ، ويترك أهله وأولاده لا يكون أقل تضحية ممن آثر غيره ببعض ماله ، وهو مستقر في أهله ودياره ، فكأن الله عوضهم بهذا الفيء عما فات عنهم .
وقد ذكر
ابن كثير رحمه الله : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال
للأنصار ما يشعر بهذا المعنى ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
" إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم " فقالوا يا رسول الله ! أموالنا بيننا قطائع الحديث .
أي أن
الأنصار عرفوا ذلك
للمهاجرين ، وعليه أيضا ، فقد استوى
المهاجرون مع
الأنصار في هذا الوصف المثالي الكريم ، وكان خلقا لكثيرين منهم بعد الهجرة
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009493كما فعل nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق - رضي الله عنه - حين تصدق بكل ماله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أبقيت لأهلك ؟ فقال رضي الله عنه : أبقيت لهم الله ورسوله ، وكذلك
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة الصديقة - رضي الله عنها - حينما كانت صائمة ، وليس عندها سوى قرص من الشعير وجاء سائل فقالت
nindex.php?page=showalam&ids=216لبريرة : ادفعي إليه ما عندك ، فقالت لها : ليس إلا ما ستفطرين عليه ، فقالت لها : ادفعيه إليه ، ولعلها أحوج إليه الآن ، أو كما قالت .
ولما جاء المغرب أهدي إليهم رجل شاة بقرامها - وقرامها هو ما كانت العرب تفعله
[ ص: 44 ] إذا أرادوا شواء شاة طلوها من الخارج بالعجين حفظا لها من رماد الجمر - فقالت
nindex.php?page=showalam&ids=216لبريرة : كلي ، هذا خير من قرصك .
وكما فعل
nindex.php?page=showalam&ids=38عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - تصدق بالعير وما تحمله من تجارة حين قدمت ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة فخرج الناس إليها .
فعلى هذا كان مجتمع
المدينة في عهده - صلى الله عليه وسلم - مجتمعا متكافلا بعضهم أولياء بعض ، وقد نوه - صلى الله عليه وسلم - في قصة غنائم
حنين بفضل كلا الفريقين في قوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009494 " لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار " .
ومن بعده
عمر - رضي الله عنه - قال : وأوصي الخليفة بعدي
بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم كرامتهم ، وأوصيه
بالأنصار خيرا الذين تبوءوا الدار والإيمان ، من قبل أن يقبل من محسنهم ، وأن يعفو عن مسيئهم .
ثم كان هذا خلق
المهاجرين والأنصار جميعا ، كما وقع في وقعة
اليرموك ، قال
حذيفة العدوي : انطلقت يوم
اليرموك أطلب ابن عم لي ، ومعي شيء من الماء وأنا أقول : إن كان به رمق سقيته ، فإذا أنا به فقلت له : أسقيك ؟ فأشار برأسه أن نعم ، فإذا أنا برجل يقول : آه آه ، فأشار إلي ابن عمي أن انطلق إليه ، فإذا هو
nindex.php?page=showalam&ids=8861هشام بن العاص ، فقلت أسقيك ؟ فأشار أن نعم ، فسمع آخر يقول آه آه ، فأشار
هشام أن انطلق إليه فجئته ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى
هشام ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات .
وكان منهج الخواص من بعدهم ، كما نقل
القرطبي عن
nindex.php?page=showalam&ids=12195أبي يزيد البسطامي أنه قال : ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل
بلخ ، قدم علينا حاجا فقال لي : ما حد الزهد عندكم ؟ فقلت : إن وجدنا أكلنا ، وإن فقدنا صبرنا ، فقال : هكذا كلاب
بلخ عندنا ، فقلت : وما حد الزهد عندكم ؟ قال : إن فقدنا شكرنا وإن وجدنا آثرنا .
وفي
nindex.php?page=treesubj&link=29030قوله : nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، الإيثار على النفس : تقديم الغير عليها مع الحاجة ، والخصاصة : التي تختل بها الحال ، وأصلها من الاختصاص ، وهو الانفراد في الأمر ، فالخصاصة الانفراد بالحاجة أي : ولو كان بهم فاقة وحاجة ، ومنه قول الشاعر :
أما الربيع إذا تكون خصاصة عاش السقيم به وأثرى المقتر
[ ص: 45 ] nindex.php?page=treesubj&link=27926وهل يصح الإيثار من كل إنسان ، ولو كان ذا عيال أو تلزمه نفقة غيره أم لا ؟ وما علاقته مع قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=219ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو [ 2 \ 219 ] ؟ .
والجواب على هذا كله في كلام الشيخ - رحمه الله - على قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3ومما رزقناهم ينفقون [ 2 \ 3 ] ، في أول سورة " البقرة " .
قال رحمه الله : قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3ومما رزقناهم ينفقون عبر في هذه الآية الكريمة بمن التبعيضية الدالة على أنه ينفق لوجه الله بعض ما له كله ، ولم يبين هنا القدر الذي ينبغي إنفاقه ، والذي ينبغي إمساكه ، ولكنه بين في مواضع أخرى أن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو الزائد على الحاجة ، وسد الخلة التي لابد منها ، وذلك كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=219ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ، والمراد بالعفو الزائد على قدر الحاجة التي لابد منها على أصح التفسيرات ، وهو مذهب الجمهور ومنه قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=95حتى عفوا [ 7 \ 95 ] أي : كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم .
وقال بعض العلماء : العفو نقيض الجهد ، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع .
ومنه قول الشاعر :
خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
وهذا القول راجع إلى ما ذكرنا ، وبقية الأقوال ضعيفة ، وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=29ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط [ 17 \ 29 ] ، فنهاه عن البخل بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=29ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ، ونهاه عن الإسراف بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=29ولا تبسطها كل البسط ، فيتعين الوسط بين الأمرين ، كما بينه بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=67والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما [ 25 \ 67 ] .
فيجب على المنفق أن يفرق بين الجود والتبذير ، وبين البخل والإقتار ، فالجود غير التبذير ، والاقتصاد غير البخل فالمنع في محل الإعطاء مذموم ، وقد نهى الله عنه نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=29ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ، والإعطاء في محل المنع مذموم أيضا ، وقد نهى الله عنه نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=29ولا تبسطها كل البسط [ ص: 46 ] وقد قال الشاعر :
لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت يداه كالمزن حتى تخجل الديما
فإنها خطرات من وساوسه يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما
وقد بين تعالى في مواضع أخرى أن الإنفاق المحمود لا يكون كذلك إلا إذا كان مصرفه الذي صرف فيه مما يرضي الله كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=215قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين 1 الآية [ 2 \ 215 ] ، وصرح في أن الإنفاق فيما لا يرضي الله حسرة على صاحبه في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=36فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة الآية [ 8 \ 36 ] .
وقد قال الشاعر :
إن الصنيعة لا تكون صنيعة حتى يصاب بها طريق المصنع
فإن قيل : هذا الذي قررتم يقتضي أن
nindex.php?page=treesubj&link=24476الإنفاق المحمود هو إنفاق ما زاد عن الحاجة الضرورية ، مع أن الله تعالى أثنى على قوم بالإنفاق وهم في حاجة إلى ما أنفقوا ، وذلك في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [ 59 \ 9 ] .
فالظاهر في الجواب والله تعالى أعلم : هو ما ذكره بعض العلماء من أن لكل مقام مقالا ، ففي
nindex.php?page=treesubj&link=27926بعض الأحوال يكون الإيثار ممنوعا ، وذلك كما إذا كانت على المنفق نفقات واجبة كنفقة الزوجات ونحوها فتبرع بالإنفاق في غير واجب ، وترك الفرض لقوله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007042وابدأ بمن تعول " ، وكأن يكون لا صبر عنده عن سؤال الناس فينفق ماله ، ويرجع إلى الناس يسألهم مالهم ، فلا يجوز له ذلك ؟ والإيثار فيما إذا كان لم يضيع نفقة واجبة ، وكان واثقا من نفسه بالصبر ، والتعفف ، وعدم السؤال .
وأما على القول بأن قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3ومما رزقناهم ينفقون يعني به الزكاة ، فالأمر واضح ، والعلم عند الله تعالى . انتهى منه .
والواقع أن
nindex.php?page=treesubj&link=25334_23468_27926للإنفاق في القرآن مراتب ثلاثة :
الأولى : الإنفاق من بعض المال بصفة عامة ، كما في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3ومما رزقناهم ينفقون .
[ ص: 47 ] الثانية : الإنفاق مما يحبه الإنسان ويحرص عليه ، كما في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=177وآتى المال على حبه [ 2 \ 177 ] ، وهذا أخص من الأول ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=8ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا الآية [ 76 \ 8 ] .
الثالثة : الإنفاق مع الإيثار على النفس كهذه الآية :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة فهي أخص من الخاص الأول .
وتعتبر المرتبة الأولى هي الحد الأدنى في الواجب ، حتى قيل : إن المراد بها الزكاة ، وهي تشمل النافلة ، وتصدق على أدنى شيء ولو شق تمرة ، وتدخل في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=99&ayano=7فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره [ 99 \ 7 ] ، وتعتبر المرتبة الثالثة هي الحد الأقصى ؛ لأنها إيثار للغير على خاصة النفس ، والمرتبة الثانية هي الوسطى بينهما ، وهي الحد الوسط بين الاكتفاء بأقل الواجب ، وبين الإيثار على النفس وهي ميزان التوسط لعامة الناس ، كما بينه تعالى بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=29ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط [ 17 \ 29 ] ، وكما امتدح الله تعالى قوما بالاعتدال في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=67والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما [ 25 \ 67 ] .
وهذا هو عين تطبيق قاعدة الفلسفة الأخلاقية القائلة : الفضيلة وسط بين طرفين أي : طرفي الإفراط والتفريط ، فالشجاعة مثلا وسط بين التهور والجبن ، والكرم وسط بين التبذير والتقتير .
وللإنفاق جوانب متعددة ، وأحكام متفاوتة ، قد بين الشيخ - رحمه الله - جانبا من الأحكام ، وقد بين القرآن الجوانب الأخرى ، وتنحصر في الآتي : نوع ما يقع منه الإنفاق ، الجهة المنفق عليها ، موقف المنفق ، وصورة الإنفاق .
أما ما يقع منه الإنفاق : قد بينه تعالى أولا من كسب حلال لقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=267ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد [ 2 \ 267 ] .
وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=92لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون [ 3 \ 92 ] .
أما الجهة المنفق عليها : فكما في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=215يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم [ ص: 48 ] [ 2 \ 215 ] فبدأ بالوالدين برا لهما ، وثنى بالأقربين .
وقال صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009495 " الصدقة على القريب صدقة وصلة ، وعلى البعيد صدقة " ثم اليتامى وهذا واجب إنساني وتكافل اجتماعي ، لأن يتيم اليوم منفق الغد ، وولد الأبوين اليوم قد يكون يتيما غدا ، أي : أن من أحسن إلى اليتيم اليوم قد يترك أيتاما ، فيحسن عليهم ذلك اليتيم الذي أحسنت إليه بالأمس ، " والمساكين وابن السبيل " أمور عامة .
وجاء بالقاعدة العامة التي يحاسب الله تعالى عليها ويجازي صاحبها
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=215وما تفعلوا من خير أي : مطلقا فإن الله به عليم [ 2 \ 215 ] ، وكفى في ذلك علمه تعالى .
أما موقف المنفق وصورة الإنفاق : فإن هذا هو سر النفقة في الإسلام ، وفلسفة الإنفاق كلها تظهر في هذا الجانب ، مما تميز به الإسلام دون غيره من جميع الأديان أو النظم .
لأنه يركز على الحفاظ على شعور وإحساس المسكين ، بحيث لا يشعره بجرح المسكنة ، ولا ذلة الفاقة كما في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=262الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 2 \ 262 ] .
ثم فاضل بين الكلمة الطيبة والصدقة المؤذية في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=263قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم [ 2 \ 263 ] يعطي ولا يمن بالعطاء .
وأفهم المنفقين أن المن والأذى يبطل الصدقة :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=264ياأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [ 2 \ 264 ] لما فيه من جرح شعور المسكين .
وقد حث على إخفائها إمعانا في الحفاظ على شعوره وإحساسه :
إن تبدوا الصدقات فنعما هي أي : مع الآداب السابقة
وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم [ 2 \ 271 ] أي : لكم أنتم في حفظ ثوابها .
وقد جعل صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009498رجل تصدق بصدقة فأخفاها ، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه " ، وكما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=274الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 2 \ 274 ] .
[ ص: 49 ] ومن خصائص الإسلام في هذا الباب أنه كما أدب الأغنياء في طريقة الإنفاق فقد أدب الفقراء في طريقة الأخذ ، وذلك في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=273للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا [ 2 \ 273 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=8nindex.php?page=treesubj&link=29030لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ .
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ
nindex.php?page=treesubj&link=31104وَصْفٌ شَامِلٌ لِلْمُهَاجِرِينَ فِي دَوَافِعِ الْهِجْرَةِ ، أَنَّهُمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=8يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ، وَغَايَتُهَا ، وَهِيَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=8وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَالْحُكْمُ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=8أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ .
وَمَنْطُوقُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْمُهَاجِرِينَ ، مَعَ أَنَّهُ جَاءَتْ نُصُوصٌ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى مُشَارَكَةِ
الْأَنْصَارِ لَهُمْ فِيهِ ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=72إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [ 8 \ 72 ] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=74وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [ 8 \ 74 ] .
فَذَكَرَ الْمُهَاجِرِينَ بِالْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ ، وَذَكَرَ مَعَهُمُ
الْأَنْصَارَ بِالْإِيوَاءِ وَالنَّصْرِ ، وَوَصَفَ الْفَرِيقَيْنِ مَعًا بِوَلَايَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ ، وَأَثْبَتَ لَهُمْ مَعًا حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ : أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ، أَيْ : الصَّادِقُونَ فِي إِيمَانِهِمْ ، فَاسْتَوَى
الْأَنْصَارُ مَعَ
الْمُهَاجِرِينَ فِي عَامِلِ النُّصْرَةِ وَفِي صِدْقِ الْإِيمَانِ .
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [ ص: 43 ] [ 59 \ 9 ] ، وَصْفٌ شَامِلٌ
لِلْأَنْصَارِ ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9تَبَوَّءُوا الدَّارَ ) أَيْ :
الْمَدِينَةَ ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) أَيْ : بَيْعَةَ
الْعَقَبَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ
الْمُهَاجِرِينَ ، بَلْ وَمِنْ قَبْلِ إِيمَانِ بَعْضِ
الْمُهَاجِرِينَ ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ) وَيَسْتَقْبِلُونَهُ بِصُدُورٍ رَحْبَةٍ ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9وَيُؤْثِرُونَ ) غَيْرَهُمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) ، لِأَنَّهُمْ هَاجَرُوا إِلَيْهِمْ .
وَظَاهِرُ النُّصُوصِ تَدُلُّ بِمَفْهُومِهَا أَنَّ غَيْرَهُمْ لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ ، وَلَكِنْ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مَا يَدُلُّ لِمُشَارَكَةِ
الْمُهَاجِرِينَ الْأَنْصَارَ فِي هَذَا الْوَصْفِ الْكَرِيمِ ، وَهُوَ الْإِيثَارُ عَلَى النَّفْسِ ، لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19917_19912حَقِيقَةَ الْإِيثَارِ عَلَى النَّفْسِ هُوَ بَذْلُ الْمَالِ لِلْغَيْرِ عِنْدَ حَاجَتِهِ مُقَدِّمًا غَيْرَهُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى بِالذَّاتِ سَبَقَ أَنْ كَانَ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ أَنْفُسِهِمِ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=8لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ [ 59 \ 8 ] ، فَكَانَتْ لَهُمْ دِيَارٌ ، وَكَانَتْ عِنْدَهُمْ أَمْوَالٌ وَأُخْرِجُوا مِنْهَا كُلِّهَا ، فَلَئِنْ كَانَ
الْأَنْصَارُ وَاسَوْا إِخْوَانَهُمُ
الْمُهَاجِرِينَ بِبَعْضِ أَمْوَالِهِمْ ، وَقَاسَمُوهُمْ مُمْتَلَكَاتِهِمْ ، فَإِنَّ
الْمُهَاجِرِينَ لَمْ يَنْزِلُوا عَنْ بَعْضِ أَمْوَالِهِمْ فَحَسْبُ ، بَلْ تَرَكُوهَا كُلَّهَا : أَمْوَالَهُمْ ، وَدِيَارَهُمْ ، وَأَوْلَادَهُمْ ، وَأَهْلَهُمْ ، فَصَارُوا فُقَرَاءَ بَعْدَ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَمَنْ يَخْرُجُ مِنْ كُلِّ مَالِهِ وَدِيَارِهِ ، وَيَتْرُكُ أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ لَا يَكُونُ أَقَلَّ تَضْحِيَةً مِمَّنْ آثَرَ غَيْرَهُ بِبَعْضِ مَالِهِ ، وَهُوَ مُسْتَقِرٌّ فِي أَهْلِهِ وَدِيَارِهِ ، فَكَأَنَّ اللَّهَ عَوَّضَهُمْ بِهَذَا الْفَيْءِ عَمَّا فَاتَ عَنْهُمْ .
وَقَدْ ذَكَرَ
ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ
لِلْأَنْصَارِ مَا يُشْعِرُ بِهَذَا الْمَعْنَى ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
" إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ تَرَكُوا الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ وَخَرَجُوا إِلَيْكُمْ " فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَمْوَالُنَا بَيْنَنَا قَطَائِعُ الْحَدِيثَ .
أَيْ أَنَّ
الْأَنْصَارَ عَرَفُوا ذَلِكَ
لِلْمُهَاجِرِينَ ، وَعَلَيْهِ أَيْضًا ، فَقَدِ اسْتَوَى
الْمُهَاجِرُونَ مَعَ
الْأَنْصَارِ فِي هَذَا الْوَصْفِ الْمِثَالِيِّ الْكَرِيمِ ، وَكَانَ خُلُقًا لِكَثِيرِينَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009493كَمَا فَعَلَ nindex.php?page=showalam&ids=1الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ تَصَدَّقَ بِكُلِّ مَالِهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ ؟ فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَكَذَلِكَ
nindex.php?page=showalam&ids=25عَائِشَةُ الصِّدِّيقَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حِينَمَا كَانَتْ صَائِمَةً ، وَلَيْسَ عِنْدَهَا سِوَى قُرْصٍ مِنَ الشَّعِيرِ وَجَاءَ سَائِلٌ فَقَالَتْ
nindex.php?page=showalam&ids=216لِبَرِيرَةَ : ادْفَعِي إِلَيْهِ مَا عِنْدَكِ ، فَقَالَتْ لَهَا : لَيْسَ إِلَّا مَا سَتُفْطِرِينَ عَلَيْهِ ، فَقَالَتْ لَهَا : ادْفَعِيهِ إِلَيْهِ ، وَلَعَلَّهَا أَحْوَجُ إِلَيْهِ الْآنَ ، أَوْ كَمَا قَالَتْ .
وَلَمَّا جَاءَ الْمَغْرِبُ أُهْدِيَ إِلَيْهِمْ رِجْلُ شَاةٍ بِقِرَامِهَا - وَقِرَامُهَا هُوَ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ
[ ص: 44 ] إِذَا أَرَادُوا شِوَاءَ شَاةٍ طَلَوْهَا مِنَ الْخَارِجِ بِالْعَجِينِ حِفْظًا لَهَا مِنْ رَمَادِ الْجَمْرِ - فَقَالَتْ
nindex.php?page=showalam&ids=216لِبَرِيرَةَ : كُلِي ، هَذَا خَيْرٌ مِنْ قُرْصِكِ .
وَكَمَا فَعَلَ
nindex.php?page=showalam&ids=38عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَصَدَّقَ بِالْعِيرِ وَمَا تَحْمِلُهُ مِنْ تِجَارَةٍ حِينَ قَدِمَتْ ، وَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَخَرَجَ النَّاسُ إِلَيْهَا .
فَعَلَى هَذَا كَانَ مُجْتَمَعُ
الْمَدِينَةِ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُجْتَمَعًا مُتَكَافِلًا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ، وَقَدْ نَوَّهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِصَّةِ غَنَائِمِ
حُنَيْنٍ بِفَضْلِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009494 " لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ " .
وَمِنْ بَعْدِهِ
عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : وَأُوصِي الْخَلِيفَةَ بَعْدِي
بِالْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ وَيَحْفَظَ لَهُمْ كَرَامَتَهُمْ ، وَأُوصِيهِ
بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ ، مِنْ قَبْلُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْ مُسِيئِهِمْ .
ثُمَّ كَانَ هَذَا خُلُقَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ جَمِيعًا ، كَمَا وَقَعَ فِي وَقْعَةِ
الْيَرْمُوكِ ، قَالَ
حُذَيْفَةُ الْعَدَوِيِّ : انْطَلَقْتُ يَوْمَ
الْيَرْمُوكِ أَطْلُبُ ابْنَ عَمٍّ لِي ، وَمَعِي شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ وَأَنَا أَقُولُ : إِنْ كَانَ بِهِ رَمَقٌ سَقَيْتُهُ ، فَإِذَا أَنَا بِهِ فَقُلْتُ لَهُ : أَسْقِيكَ ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ ، فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ يَقُولُ : آهٍ آهٍ ، فَأَشَارَ إِلَيَّ ابْنُ عَمِّي أَنِ انْطَلِقْ إِلَيْهِ ، فَإِذَا هُوَ
nindex.php?page=showalam&ids=8861هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ ، فَقُلْتُ أَسْقِيكَ ؟ فَأَشَارَ أَنْ نَعَمْ ، فَسَمِعَ آخَرَ يَقُولُ آهٍ آهٍ ، فَأَشَارَ
هِشَامُ أَنِ انْطَلِقْ إِلَيْهِ فَجِئْتُهُ ، فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ ، فَرَجَعْتُ إِلَى
هِشَامٍ ، فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ ، فَرَجَعْتُ إِلَى ابْنِ عَمِّي فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ .
وَكَانَ مَنْهَجُ الْخَوَاصِّ مِنْ بَعْدِهِمْ ، كَمَا نَقَلَ
الْقُرْطُبِيُّ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=12195أَبِي يَزِيدِ الْبِسْطَامِيِّ أَنَّهُ قَالَ : مَا غَلَبَنِي أَحَدٌ مَا غَلَبَنِي شَابٌّ مِنْ أَهْلِ
بَلْخٍ ، قَدِمَ عَلَيْنَا حَاجًّا فَقَالَ لِي : مَا حَدُّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ ؟ فَقُلْتُ : إِنْ وَجَدْنَا أَكَلْنَا ، وَإِنْ فَقَدْنَا صَبَرْنَا ، فَقَالَ : هَكَذَا كِلَابُ
بَلْخٍ عِنْدَنَا ، فَقُلْتُ : وَمَا حَدُّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ ؟ قَالَ : إِنْ فَقَدْنَا شَكَرْنَا وَإِنْ وَجَدْنَا آثَرْنَا .
وَفِي
nindex.php?page=treesubj&link=29030قَوْلِهِ : nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ، الْإِيثَارُ عَلَى النَّفْسِ : تَقْدِيمُ الْغَيْرِ عَلَيْهَا مَعَ الْحَاجَةِ ، وَالْخَصَاصَةُ : الَّتِي تَخْتَلُّ بِهَا الْحَالُ ، وَأَصْلُهَا مِنَ الِاخْتِصَاصِ ، وَهُوَ الِانْفِرَادُ فِي الْأَمْرِ ، فَالْخَصَاصَةُ الِانْفِرَادُ بِالْحَاجَةِ أَيْ : وَلَوْ كَانَ بِهِمْ فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
أَمَّا الرَّبِيعُ إِذَا تَكُونُ خَصَاصَةٌ عَاشَ السَّقِيمُ بِهِ وَأَثْرَى الْمُقْتِرَ
[ ص: 45 ] nindex.php?page=treesubj&link=27926وَهَلْ يَصِحُّ الْإِيثَارُ مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ ، وَلَوْ كَانَ ذَا عِيَالٍ أَوْ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ غَيْرِهِ أَمْ لَا ؟ وَمَا عَلَاقَتُهُ مَعَ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=219وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [ 2 \ 219 ] ؟ .
وَالْجَوَابُ عَلَى هَذَا كُلِّهِ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [ 2 \ 3 ] ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ عَبَّرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِمَنِ التَّبْعِيضِيةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ يُنْفِقُ لِوَجْهِ اللَّهِ بَعْضَ مَا لَهُ كُلِّهِ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْقَدْرَ الَّذِي يَنْبَغِي إِنْفَاقُهُ ، وَالَّذِي يَنْبَغِي إِمْسَاكُهُ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَنْبَغِي إِنْفَاقُهُ هُوَ الزَّائِدُ عَلَى الْحَاجَةِ ، وَسَدِّ الْخَلَّةِ الَّتِي لَابُدَّ مِنْهَا ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=219وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ، وَالْمُرَادُ بِالْعَفْوِ الزَّائِدُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ الَّتِي لَابُدَّ مِنْهَا عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَاتِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=95حَتَّى عَفَوْا [ 7 \ 95 ] أَيْ : كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْعَفْوُ نَقِيضُ الْجُهْدِ ، وَهُوَ أَنْ يُنْفِقَ مَا لَا يَبْلُغُ إِنْفَاقُهُ مِنْهُ الْجُهْدَ وَاسْتِفْرَاغَ الْوُسْعِ .
وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
خُذِي الْعَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي وَلَا تَنْطِقِي فِي سَوْرَتِي حِينَ أَغْضَبُ
وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَبَقِيَّةُ الْأَقْوَالِ ضَعِيفَةٌ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=29وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [ 17 \ 29 ] ، فَنَهَاهُ عَنِ الْبُخْلِ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=29وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ، وَنَهَاهُ عَنِ الْإِسْرَافِ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=29وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ، فَيَتَعَيَّنُ الْوَسَطُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ، كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=67وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [ 25 \ 67 ] .
فَيَجِبُ عَلَى الْمُنْفِقِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْجُودِ وَالتَّبْذِيرِ ، وَبَيْنَ الْبُخْلِ وَالْإِقْتَارِ ، فَالْجُودُ غَيْرُ التَّبْذِيرِ ، وَالِاقْتِصَادُ غَيْرُ الْبُخْلِ فَالْمَنْعُ فِي مَحَلِّ الْإِعْطَاءِ مَذْمُومٌ ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=29وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ، وَالْإِعْطَاءُ فِي مَحَلِّ الْمَنْعِ مَذْمُومٌ أَيْضًا ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=29وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [ ص: 46 ] وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ :
لَا تَمْدَحَنَّ ابْنَ عِبَادٍ وَإِنْ هَطَلَتْ يَدَاهُ كَالْمُزْنِ حَتَّى تَخْجَلَ الدِّيَمَا
فَإِنَّهَا خَطَرَاتٌ مِنْ وَسَاوِسِهِ يُعْطِي وَيَمْنَعُ لَا بُخْلًا وَلَا كَرَمًا
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى أَنَّ الْإِنْفَاقَ الْمَحْمُودَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ مَصْرِفُهُ الَّذِي صُرِفَ فِيهِ مِمَّا يُرْضِي اللَّهَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=215قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ 1 الْآيَةَ [ 2 \ 215 ] ، وَصَرَّحَ فِي أَنَّ الْإِنْفَاقَ فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ حَسْرَةٌ عَلَى صَاحِبِهِ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=36فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً الْآيَةَ [ 8 \ 36 ] .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ :
إِنَّ الصَّنِيعَةَ لَا تَكُونُ صَنِيعَةً حَتَّى يُصَابَ بِهَا طَرِيقُ الْمَصْنَعِ
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الَّذِي قَرَّرْتُمْ يَقْتَضِي أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=24476الْإِنْفَاقَ الْمَحْمُودَ هُوَ إِنْفَاقُ مَا زَادَ عَنِ الْحَاجَةِ الضَّرُورِيَّةِ ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى قَوْمٍ بِالْإِنْفَاقِ وَهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى مَا أَنْفَقُوا ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ 59 \ 9 ] .
فَالظَّاهِرُ فِي الْجَوَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ : هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالًا ، فَفِي
nindex.php?page=treesubj&link=27926بَعْضِ الْأَحْوَالِ يَكُونُ الْإِيثَارُ مَمْنُوعًا ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا كَانَتْ عَلَى الْمُنْفِقِ نَفَقَاتٌ وَاجِبَةٌ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَنَحْوِهَا فَتَبَرَّعَ بِالْإِنْفَاقِ فِي غَيْرِ وَاجِبٍ ، وَتَرَكَ الْفَرْضَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007042وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ " ، وَكَأَنْ يَكُونَ لَا صَبْرَ عِنْدَهُ عَنْ سُؤَالِ النَّاسِ فَيُنْفِقُ مَالَهُ ، وَيَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ يَسْأَلُهُمْ مَالَهُمْ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ ؟ وَالْإِيثَارُ فِيمَا إِذَا كَانَ لَمْ يُضَيِّعْ نَفَقَةً وَاجِبَةً ، وَكَانَ وَاثِقًا مِنْ نَفْسِهِ بِالصَّبْرِ ، وَالتَّعَفُّفِ ، وَعَدَمِ السُّؤَالِ .
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ يَعْنِي بِهِ الزَّكَاةَ ، فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى . انْتَهَى مِنْهُ .
وَالْوَاقِعُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=25334_23468_27926لِلْإِنْفَاقِ فِي الْقُرْآنِ مَرَاتِبَ ثَلَاثَةً :
الْأُولَى : الْإِنْفَاقُ مِنْ بَعْضِ الْمَالِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ .
[ ص: 47 ] الثَّانِيَةُ : الْإِنْفَاقُ مِمَّا يُحِبُّهُ الْإِنْسَانُ وَيَحْرِصُ عَلَيْهِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=177وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [ 2 \ 177 ] ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنَ الْأَوَّلِ ، وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=8وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا الْآيَةَ [ 76 \ 8 ] .
الثَّالِثَةُ : الْإِنْفَاقُ مَعَ الْإِيثَارِ عَلَى النَّفْسِ كَهَذِهِ الْآيَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ فَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الْخَاصِّ الْأَوَّلِ .
وَتُعْتَبَرُ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى هِيَ الْحَدُّ الْأَدْنَى فِي الْوَاجِبِ ، حَتَّى قِيلَ : إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الزَّكَاةُ ، وَهِيَ تَشْمَلُ النَّافِلَةَ ، وَتَصْدُقُ عَلَى أَدْنَى شَيْءٍ وَلَوْ شِقِّ تَمْرَةٍ ، وَتَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=99&ayano=7فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [ 99 \ 7 ] ، وَتُعْتَبَرُ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ هِيَ الْحَدُّ الْأَقْصَى ؛ لِأَنَّهَا إِيثَارٌ لِلْغَيْرِ عَلَى خَاصَّةِ النَّفْسِ ، وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْوُسْطَى بَيْنَهُمَا ، وَهِيَ الْحَدُّ الْوَسَطُ بَيْنَ الِاكْتِفَاءِ بِأَقَلِّ الْوَاجِبِ ، وَبَيْنَ الْإِيثَارِ عَلَى النَّفْسِ وَهِيَ مِيزَانُ التَّوَسُّطِ لِعَامَّةِ النَّاسِ ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=29وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [ 17 \ 29 ] ، وَكَمَا امْتَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمًا بِالِاعْتِدَالِ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=67وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [ 25 \ 67 ] .
وَهَذَا هُوَ عَيْنُ تَطْبِيقِ قَاعِدَةِ الْفَلْسَفَةِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْقَائِلَةِ : الْفَضِيلَةُ وَسَطٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ أَيْ : طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ ، فَالشَّجَاعَةُ مَثَلًا وَسَطٌ بَيْنَ التَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ ، وَالْكَرَمُ وَسَطٌ بَيْنَ التَّبْذِيرِ وَالتَّقْتِيرِ .
وَلِلْإِنْفَاقِ جَوَانِبُ مُتَعَدِّدَةٌ ، وَأَحْكَامٌ مُتَفَاوِتَةٌ ، قَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَانِبًا مِنَ الْأَحْكَامِ ، وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ الْجَوَانِبَ الْأُخْرَى ، وَتَنْحَصِرُ فِي الْآتِي : نَوْعِ مَا يَقَعُ مِنْهُ الْإِنْفَاقُ ، الْجِهَةِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهَا ، مَوْقِفِ الْمُنْفِقِ ، وَصُورَةِ الْإِنْفَاقِ .
أَمَّا مَا يَقَعُ مِنْهُ الْإِنْفَاقُ : قَدْ بَيَّنَهُ تَعَالَى أَوَّلًا مِنْ كَسْبٍ حَلَالٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=267يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [ 2 \ 267 ] .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=92لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [ 3 \ 92 ] .
أَمَّا الْجِهَةُ الْمُنْفَقِ عَلَيْهَا : فَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=215يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [ ص: 48 ] [ 2 \ 215 ] فَبَدَأَ بِالْوَالِدَيْنِ بِرًّا لَهُمَا ، وَثَنَّى بِالْأَقْرَبِينَ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009495 " الصَّدَقَةُ عَلَى الْقَرِيبِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ ، وَعَلَى الْبَعِيدِ صَدَقَةٌ " ثُمَّ الْيَتَامَى وَهَذَا وَاجِبٌ إِنْسَانِيٌّ وَتَكَافُلٌ اجْتِمَاعِيٌّ ، لِأَنَّ يَتِيمَ الْيَوْمِ مُنْفِقُ الْغَدِ ، وَوَلَدَ الْأَبَوَيْنِ الْيَوْمَ قَدْ يَكُونُ يَتِيمًا غَدًا ، أَيْ : أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَى الْيَتِيمِ الْيَوْمَ قَدْ يَتْرُكُ أَيْتَامًا ، فَيُحْسِنُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الْيَتِيمُ الَّذِي أَحْسَنْتَ إِلَيْهِ بِالْأَمْسِ ، " وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ " أُمُورٌ عَامَّةٌ .
وَجَاءَ بِالْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي يُحَاسِبُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا وَيُجَازِي صَاحِبَهَا
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=215وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ أَيْ : مُطْلَقًا فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [ 2 \ 215 ] ، وَكَفَى فِي ذَلِكَ عِلْمُهُ تَعَالَى .
أَمَّا مَوْقِفُ الْمُنْفِقِ وَصُورَةُ الْإِنْفَاقِ : فَإِنَّ هَذَا هُوَ سِرُّ النَّفَقَةِ فِي الْإِسْلَامِ ، وَفَلْسَفَةُ الْإِنْفَاقِ كُلُّهَا تَظْهَرُ فِي هَذَا الْجَانِبِ ، مِمَّا تَمَيَّزَ بِهِ الْإِسْلَامُ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَدْيَانِ أَوِ النُّظُمِ .
لِأَنَّهُ يُرَكِّزُ عَلَى الْحِفَاظِ عَلَى شُعُورِ وَإِحْسَاسِ الْمِسْكِينِ ، بِحَيْثُ لَا يُشْعِرُهُ بِجُرْحِ الْمَسْكَنَةِ ، وَلَا ذِلَّةِ الْفَاقَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=262الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [ 2 \ 262 ] .
ثُمَّ فَاضَلَ بَيْنَ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُؤْذِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=263قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ [ 2 \ 263 ] يُعْطِي وَلَا يَمُنُّ بِالْعَطَاءِ .
وَأَفْهَمَ الْمُنْفِقِينَ أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى يُبْطِلُ الصَّدَقَةَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=264يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [ 2 \ 264 ] لِمَا فِيهِ مِنْ جَرْحِ شُعُورِ الْمِسْكِينِ .
وَقَدْ حَثَّ عَلَى إِخْفَائِهَا إِمْعَانًا فِي الْحِفَاظِ عَلَى شُعُورِهِ وَإِحْسَاسِهِ :
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ أَيْ : مَعَ الْآدَابِ السَّابِقَةِ
وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [ 2 \ 271 ] أَيْ : لَكُمْ أَنْتُمْ فِي حِفْظِ ثَوَابِهَا .
وَقَدْ جَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَحْتَ ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009498رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا ، حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا أَنْفَقَتْ يَمِينُهُ " ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=274الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [ 2 \ 274 ] .
[ ص: 49 ] وَمِنْ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ كَمَا أَدَّبَ الْأَغْنِيَاءَ فِي طَرِيقَةِ الْإِنْفَاقِ فَقَدْ أَدَّبَ الْفُقَرَاءَ فِي طَرِيقَةِ الْأَخْذِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=273لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [ 2 \ 273 ] .