تنبيه .
قوله : والذين هم بشهاداتهم قائمون ، يفيد القيام بالشهادة مطلقا ، وجاء قوله : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا [ 2 \ 282 ] ، فقيد القيام بالشهادة بالدعوة إليها .
وفي الحديث : " " . خير الشهود من يأتي بالشهادة قبل أن يسألها
[ ص: 297 ] وفي حديث آخر في ذم المبادرة بها ، ويشهدون قبل أن يستشهدوا . وقد جمع العلماء بين الحديثين ; بأن الأول في حالة عدم معرفة المشهود له بما عنده من شهادة ، أو يتوقف على شهاداته حق شرعي : كرضاع ، وطلاق ونحوه ، والثاني بعكس ذلك .
وقد نص ابن فرحون : أن الشهادة في حق الله على قسمين : قسم تستديم فيه الحرمة : كالنكاح ، والطلاق ، فلا يتركها ، وتركها جرحة في عدالته . وقسم لا تستديم فيه الحرمة : كالزنى ، والشرب ، فإن تركها أفضل ما لم يدع لأدائها ; لحديث هزال في قصة ماعز حيث قال له - صلى الله عليه وسلم - : " " . هلا سترته بردائك
المسألة الثالثة : مواطن الشهادة الواردة في القرآن ، والتي يجب القيام فيها ، نسوقها على سبيل الإجمال .
الأول : في قوله تعالى : الإشهاد في البيع وأشهدوا إذا تبايعتم [ 2 \ 282 ] .
الثاني : لقوله تعالى : الطلاق ، والرجعة فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 \ 2 ] .
الثالث : ; لقوله تعالى : كتابة الدين فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم [ 2 \ 282 ] .
الرابع : ; لقوله تعالى : الوصية عند الموت ياأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم [ 5 \ 106 ] .
الخامس : ; لقوله تعالى : دفع مال اليتيم إليه إذا رشد فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم [ 4 \ 6 ] .
السادس : ; لقوله تعالى : إقامة الحدود وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين [ 24 \ 2 ] .
السابع : في السنة عقد النكاح ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " " ، وهذه كلها مواطن هامة تتعلق بحق الله ، وحق العباد من : حفظ للمال ، والعرض ، والنسب ، وفي حق الحي والميت ، واليتيم والكبير ، فهي في شتى مصالح الأمة استوجبت الحث على القيام بها : لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل والذين هم بشهاداتهم قائمون ، والتحذير من كتمانها : ولا تكتموا الشهادة ومن [ ص: 298 ] يكتمها فإنه آثم قلبه [ 2 \ 283 ] .
وقوله : ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله [ 2 \ 140 ] .
وقوله : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا [ 2 \ 282 ] .
المسألة الرابعة : قوله تعالى : والذين هم بشهاداتهم قائمون ، كلها صيغ الجمع ، والشهادة قد تكون من فرد ، وقد تكون من اثنين ، وقد تكون من ثلاثة ، وقد تكون من أربعة ، وقد تكون من جماعة .
وجملة ذلك أن الشهادة في الجملة من حث الشاهد تكون على النحو الآتي إجمالا : رجل واحد ، ورجل ويمين ، ورجل وامرأتان ، ورجلان ، وثلاثة رجال ، وأربعة ، وطائفة من المؤمنين ، وامرأة ، وامرأتان ، وجماعة الصبيان .
وقد جاءت النصوص بذلك صريحة . أما الواحد ، فقال تعالى : وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل [ 12 \ 26 ] .
فهو ، وإن كان ملفت النظر إلى القرينة في شق القميص ، إلا أنه شاهد واحد .
وجاء في السنة : خزيمة - رضي الله عنه - ، لما شهد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشراء الفرس من الأعرابي ، وجعلها - صلى الله عليه وسلم - بشهادة رجلين . شهادة
وجاءت السنة بثبوت شهادة الطبيب ، والقائف ، والخارص ، ونحوهم .
وجاء في ، فقد قبل - صلى الله عليه وسلم - شهادة أعرابي ، وقبل شهادة ثبوت رمضان عبد الله بن عمر ، سواء كان قبولها اكتفاء بها أو احتياطا لرمضان .
وأما شهادة الرجل الواحد ويمين المدعي ، فلحديث : " ابن عباس " وتكلم عليه قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشاهد واليمين ، وأطال في تصحيحه وتوجيهه . ابن عبد البر
وعند مالك ، ومذهب لأحمد شهادة امرأتين ، ويمين المدعي ، وخالفهما الجمهور .
وأما ، فلقوله تعالى : شهادة رجل وامرأتين فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء [ 2 \ 282 ] .
وبين تعالى توجيه ذلك بقوله : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [ 2 \ 282 ] .
[ ص: 299 ] وبهذا النص رد الجمهور مذهب مالك ، والمذهب المحكي عن أحمد ; لأنه لم ينقل إلا أربع نسوة ولم تستقل التسوية بالشهادة .
وأما شهادة الرجلين ; فلقوله تعالى : واستشهدوا شهيدين من رجالكم [ 2 \ 282 ] .
وأما ، فلقوله - صلى الله عليه وسلم - في إثبات الفاقة والإعسار : " ثلاثة رجال " الحديث . وهو حديث حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه ، فيقولون : لقد أصابت فلانة فاقة قبيصة عند مسلم وأحمد .
وأما ، وقد بين الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - ذلك في أول سورة " النور " . الأربعة ففي إثبات الزنا خاصة
وأما الطائفة ففي إقامة الحدود ; لقوله تعالى : وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين [ 24 \ 2 ] .
وأما ، كما في حديث شهادة المرأة ففي أحوال النساء خاصة عقبة بن الحارث : " وقد وقع الخلاف في قبول شهادتها وحدها ، ولكن الصحيح ما قدمنا . جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : إني أرضعتهما ، فقال له - صلى الله عليه وسلم - " فارقها " ، فقال : كيف أفارقها لقول امرأة ؟ فقال له : " كيف وقد قيل ؟ "
وأما فعند من لم يقبل شهادة المرأة ، وقيل عند استهلال الصبي ; لأن الغالب حضور أكثر من واحدة . المرأتان
وأما جماعة الصبيان ففي جناياتهم على بعض ، وقبل أن يتفرقوا ولم يدخل فيهم كبير . وفيه خلاف .
ورجح الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - العمل بها في مذكرة أصول الفقه ، في مبحث رواية الصغار .
المسألة الخامسة : اتفقوا أنه ، وإنما تكون في المال أو ما يئول إلى المال ، وفيما يتعلق بما تحت الثياب من النساء . لا دخل للنساء في الشهادة في الحدود
وفي الشهادة مباحث عديدة مبسوطة في كتب الفقه وكتب القضاء ، كتبصرة الحكام [ ص: 300 ] لابن فرحون وغيره .
وقد بسط ابن القيم الكلام عليها في الطرق الحكمية ، وابن فرحون في تبصرة الحكام ، لمن أحب الرجوع إليه ، ولكن مما لا بد منه هو المعتبرة ، وكلها تدور على ما تحصل به الطمأنينة إلى الحق المشهود به ; لأمرين أساسيين هما : الضبط ، كما في قوله تعالى في حق النسوة : شروط الشاهد أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [ 2 \ 282 ] .
والثاني : العدالة ، والصدق ، كما في قوله تعالى : إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا [ 49 \ 6 ] .
وهنا مبحث مشهور ، وهو : هل الأصل في المسلمين العدالة حتى يظهر جرحه أم العكس ؟
والصحيح الأول .
وقد كان العمل على ذلك إلى أن جاء رجل من العراق لعمر - رضي الله عنه - ، فقال له : أدرك الناس ; لقد تفشت شهادة الزور . فقال عمر : بتزكية الشهود وإثبات عدالتهم .
وقد أورد ابن فرحون في إحدى عشرة مرتبة ، وهي : مراتب الشهود
الأولى : وتجريحه ، ولا يسأل عن كيفية علمه بما شهد به من ذلك كله إذا أبهمه ، ولا يقبل فيه التجريح إلا بالعداوة . الشاهد المبرز في العدالة العالم بما تصح به الشهادة ، فتجوز شهادته في كل شيء
الثانية : ، فحكمه كالأول ، إلا أنه يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك . المبرز في العدالة غير العالم بما تصح به الشهادة
الثالثة : ، فتجوز شهادته إلا في ستة مواضع على اختلاف في بعضها ، وهي : التزكية ، شهادته لأخيه ولمولاه ولصديقه الملاطف ولشريكه في غير التجارة ، وإذا زاد في شهادته أو نقص فيها ، ويقبل فيه التجريح بالعداوة وغيرها ، ولا يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك . الشاهد المعروف بالعدالة العالم بما تصح به الشهادة
الرابعة : ، حكمه كذلك إلا أنه يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك . المعروف بالعدالة غير العالم بما تصح به الشهادة
[ ص: 301 ] الخامسة : ، فاختلف في قبول شهادته ، وأجازها الشاهد المعروف بالعدالة ; إذا قذف قبل أن يحد ابن القاسم ، وهو مذهب مالك .
السادسة : ; تجوز دون تزكية فيما يقع بين المسافرين في السفر من المعاملات ، وفيما عدا ذلك لا بد من تزكيته ; لأنه هو المعروف بمجهول الحال . الذي يتوسم فيه العدالة
والصحيح أن مثله لا بد من التحري عنه حتى ينكشف أمره .
السابعة : ; فلا تجوز شهادته في موضع من المواضع دون تزكية ، إلا أن شهادته تكون شبيهة في بعض المواضع عند بعض العلماء ، فتوجب اليمين ، وتوجب الحميل ، وتوقيف الشيء على المدعى عليه . الذي لا يتوسم فيه العدالة ولا الجرحة
الثامنة : ; فلا تجوز شهادته دون تزكية ، ولا تكون شهادته شبهة توجب حكما . الذي يتوسم فيه الجرحة
التاسعة : أو يعلمها الحاكم فيه ; فلا تجوز شهادته دون تزكية ، ولا تقبل فيه التزكية على الإطلاق ، وإنما تقبل ممن علم بجرحته إذا شهد على توبته منها ، ونزوعه منها ، والمحدود في القذف بمنزلته على مذهب الشاهد الذي ثبت عليه جرحة قديمة مالك ; لأن تزكيته لا تجوز على الإطلاق ، وإنما تجوز بمعرفة تزيده في الخبر .
العاشرة : ; فلا تجوز شهادته ، ولا تقبل التزكية فيه وإن زكي ، وإنما تقبل تزكيته فيما يستقبل إذا تاب . المقيم على الجرحة المشهود بها
الحادية عشرة : ; فلا تصح شهادته وإن تاب وحسنت حاله ، وروى شاهد الزور أبو زيد عن ابن القاسم : أن شهادته تجوز إذا تاب وعرفت توبته بتزيد حاله في الصلاح .
قال : ولا أعلمه إلا في قول مالك ، فقيل : إن ذلك اختلاف من القول .
وقيل : معنى رواية أبي زيد إذا جاء تائبا مقرا على نفسه بشهادة الزور قبل أن تظهر عليه ، وهو الأظهر . والله سبحانه وتعالى أعلم . اهـ .
وقد أوردنا هذه المراتب ; لأنها شملت أنواع الشهود قوة وضعفا ، وفيما تقبل شهاداتهم .