الثاني : وعيدهم بأن يسلط عليهم من يبالغ في أذيتهم . فعند أحمد وأبي يعلى من حديث رفعه : " ابن مسعود " . ورجاله ثقات إلا أنه من رواية إنكم أهل هذا الأمر ما لم تحدثوا ، فإذا غيرتم بعث الله عليكم من يلحاكم كما يلحى القضيب ، عن عم أبيه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ولم يدركه ، هذه رواية عبد الله بن مسعود ، عن صالح بن كيسان عبيد الله ، وخالفه ، فرواه عن حبيب بن أبي ثابت القاسم بن محمد بن عبد الرحمن ، عن ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ولفظه : " أبي مسعود الأنصاري " الحديث . لا يزال هذا الأمر فيكم وأنتم ولاته
وفي سماع عبيد الله من أبي مسعود نظر مبني على الخلاف في سنة وفاته ، وله شاهد من مرسل ، أخرجه عطاء بن يسار الشافعي والبيهقي من طريقه بسند صحيح إلى عطاء ، ولفظه : قال لقريش : " " وليس في هذا تصريح بخروج الأمر عنهم ، وإن كان فيه إشعار به . أنتم أولى بهذا الأمر ما كنتم على الحق إلا أن تعدلوا عنه فتلحون كما تلحى هذه الجريدة
الثالث : الإذن في القيام عليهم وقتالهم ، والإيذان بخروج الأمر عنهم كما أخرجه ، الطيالسي من حديث والطبراني رفعه : " ثوبان لقريش ما استقاموا لكم ، فإن لم يستقيموا فضعوا سيوفكم على عواتقكم ، فأبيدوا خضراءهم ، فإن لم تفعلوا فكونوا زراعين أشقياء " . ورجاله ثقات ، إلا أن فيه انقطاعا ; لأن رواية استقيموا لم يسمع من سالم بن أبي الجعد ، وله شاهد في ثوبان من حديث الطبراني بمعناه . النعمان بن بشير
[ ص: 26 ] وأخرج أحمد من حديث ذي مخبر بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الموحدة بعدهما راء - وهو ابن أخي النجاشي - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : حمير فنزعه الله منهم ، وصيره في قريش ، وسيعود لهم " وسنده جيد ، وهو شاهد قوي لحديث " كان هذا الأمر في القحطاني ; فإن حمير يرجع نسبها إلى قحطان ، وبه يقوى أن مفهوم حديث معاوية : " ما أقاموا الدين " أنهم إذا لم يقيموا الدين خرج الأمر عنهم . انتهى .
واعلم أن قول ، الذي أنكره عليه عبد الله بن عمرو بن العاص معاوية في الحديث المذكور ، إنه سيكون ملك من قحطان إذا كان - رضي الله عنهما - يعني به عبد الله بن عمرو القحطاني الذي صحت الرواية بملكه ، فلا وجه لإنكاره لثبوت أمره في الصحيح ، من حديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أبي هريرة قحطان يسوق الناس بعصاه " . أخرجه لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من في " كتاب الفتن " في " باب تغير الزمان حتى يعبدوا الأوثان " ، وفي " كتاب المناقب " في " باب ذكر البخاري قحطان " ، وأخرجه مسلم في " كتاب الفتن وأشراط الساعة " في " " وهذا باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل ، فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء القحطاني لم يعرف اسمه عند الأكثرين . وقال بعض العلماء : اسمه جهجاه ، وقال بعضهم : اسمه شعيب بن صالح ، وقال ابن حجر في الكلام على حديث القحطاني هذا ما نصه : وقد تقدم في الحج أن البيت يحج بعد خروج يأجوج ومأجوج : وتقدم الجمع بينه وبين حديث : " الكعبة يخربها ذو السويقتين من الحبشة " فينتظم من ذلك أن الحبشة إذا خربت البيت خرج عليهم لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت ، وأن القحطاني فأهلكهم ، وأن المؤمنين قبل ذلك يحجون في زمن عيسى بعد خروج يأجوج ومأجوج وهلاكهم ، وأن الريح التي تقبض أرواح المؤمنين تبدأ بمن بقي بعد عيسى ويتأخر أهل اليمن بعدها .
ويمكن أن يكون هذا مما يفسر به قوله : " " أي : يتأخر الإيمان بها بعد فقده من جميع الأرض . وقد أخرج الإيمان يمان مسلم حديث القحطاني عقب حديث تخريب الكعبة ذو السويقتين فلعله رمز إلى هذا . انتهى منه بلفظه والله أعلم ، ونسبة العلم إليه أسلم .
الثاني : ولا خلاف في ذلك بين العلماء ، [ ص: 27 ] ويدل له ما ثبت في " صحيح من شروط الإمام الأعظم : كونه ذكرا " وغيره من حديث البخاري أبي بكرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن فارسا ملكوا ابنة كسرى قال : " " . لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة
الثالث : من شروط الإمام الأعظم كونه حرا . فلا يجوز أن يكون عبدا ، ولا خلاف في هذا بين العلماء .
فإن قيل : ورد في الصحيح ما يدل على جواز ، فقد أخرج إمامة العبد في [ صحيحه ] من حديث البخاري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنس بن مالك " . اسمعوا وأطيعوا ، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة
ولمسلم من حديث أم الحصين : . اسمعوا وأطيعوا ، ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله
ولمسلم أيضا من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - . فالجواب من أوجه : الأول : أنه قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود ، فإطلاق العبد الحبشي لأجل المبالغة في الأمر بالطاعة ، وإن كان لا يتصور شرعا أن يلي ذلك ، ذكر أوصاني خليلي أن أطيع وأسمع ، وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف ابن حجر هذا الجواب عن الخطابي ، ويشبه هذا الوجه قوله تعالى : ( قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ) [ 43 \ 81 ] على أحد التفسيرات .
الوجه الثاني : أن المراد باستعمال العبد الحبشي أن يكون مؤمرا من جهة الإمام الأعظم على بعض البلاد وهو أظهرها ، فليس هو الإمام الأعظم .
الوجه الثالث : أن يكون أطلق عليه اسم العبد ; نظرا لاتصافه بذلك سابقا مع أنه وقت التولية حر ، ونظيره إطلاق اليتم على البالغ باعتبار اتصافه به سابقا في قوله تعالى : ( وآتوا اليتامى أموالهم ) الآية [ 4 \ 2 ] ، وهذا كله فيما يكون بطريق الاختيار . أما لو فإن طاعته تجب ; إخمادا للفتنة ، وصونا للدماء ما لم يأمر بمعصية كما تقدمت الإشارة إليه . تغلب عبد حقيقة بالقوة
والمراد بالزبيبة في هذا الحديث واحدة الزبيب المأكول المعروف الكائن من العنب إذا جف ، والمقصود من التشبيه : التحقير وتقبيح الصورة ; لأن السمع والطاعة إذا وجبا لمن كان كذلك دل ذلك على الوجوب على كل حال إلا في المعصية كما [ ص: 28 ] يأتي ، ويشبه قوله صلى الله عليه وسلم : " كأنه زبيبة " قول الشاعر يهجو شخصا أسود :
دنس الثياب كأن فروة رأسه غرست فأنبت جانباها فلفلا
الرابع : ، فلا تجوز إمامة الصبي إجماعا لعدم قدرته على القيام بأعباء الخلافة . من شروطه أن يكون بالغا
الخامس : أن يكون عاقلا ، فلا تجوز إمامة المجنون ، ولا المعتوه ، وهذا لا نزاع فيه .
السادس : ، فلا تجوز إمامة فاسق ، واستدل عليه بعض العلماء بقوله تعالى : ( أن يكون عدلا قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) [ 2 \ 124 ] ويدخل في اشتراط العدالة اشتراط الإسلام ; لأن العدل لا يكون غير مسلم .
السابع : أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين ، مجتهدا يمكنه الاستغناء عن استفتاء غيره في الحوادث .
الثامن : ونحو ذلك ، ويدل لهذين الشرطين الأخيرين ، أعني : العلم وسلامة الجسم ؛ قوله تعالى في طالوت : ( أن يكون سليم الأعضاء غير زمن ولا أعمى إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ) [ 2 \ 247 ] .
التاسع : أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب ، وتدبير الجيوش ، وسد الثغور ، وحماية بيضة المسلمين ، وردع الأمة ، والانتقام من الظالم ، والأخذ للمظلوم . كما قال لقيط الإيادي : [ البسيط ]
وقلدوا أمركم لله دركم رحب الذراع بأمر الحرب مطلعا
العاشر : أن يكون ممن لا تلحقه رقة في إقامة الحدود ، ولا فزع من ضرب الرقاب ولا قطع الأعضاء ، ويدل ذلك إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على أن الإمام لا بد أن يكون كذلك . قاله القرطبي .