سورة طه
إن الساعة آتية أكاد أخفيها . قوله تعالى :
هذه الآية الكريمة يتوهم منها أنه جل وعلا لم يخفها بالفعل ولكنه قارب أن يخفيها لأن كاد فعل مقاربة .
وقد جاء في آيات أخر التصريح بأنه أخفاها كقوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] .
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن إن الله عنده علم الساعة الآية [ 31 ] . المراد بمفاتح الغيب الخمس المذكورة في قوله تعالى :
وكقوله : قل إنما علمها عند ربي [ 7 \ 187 ] وقوله : فيم أنت من ذكراها [ 79 \ 43 ] إلى غير ذلك من الآيات .
والجواب من سبعة أوجه :
الأول : وهو الراجح ، أن معنى الآية : أكاد أخفيها من نفسي ، أي لو كان ذلك يمكن ، وهذا على عادة العرب ، لأن القرءان نزل بلغتهم ، والواحد منهم إذا أراد المبالغة في كتمان أمر قال : كتمته من نفسي ، أي لا أبوح لأحد ، ومنه قول الشاعر :
أيام تصحبني هند وأخبرها ما كدت أكتمه عني من الخبر
ونظير هذا من المبالغة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله : وهذا القول مروي عن أكثر المفسرين ، وممن قال به رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح كما نقله عنهم ابن جرير ، كما نقله عنه وجعفر الصادق الألوسي في تفسيره ، ويؤيد هذا القول أن في مصحف أبي : " أكاد أخفيها من نفسي " ، [ ص: 336 ] كما نقله الألوسي وغيره .وروى ابن خالويه أنها في مصحف أبي كذلك بزيادة : " فكيف أظهركم عليها " ، وفي بعض القراءات بزيادة : " فكيف أظهرها لكم " وفي مصحف بزيادة : " فكيف يعلمها مخلوق " كما نقله عبد الله بن مسعود الألوسي وغيره .
الوجه الثاني : أن معنى الآية أكاد أخفيها أي أخفي الأخبار بأنها آتية ، والمعنى أقرب أن أترك الإخبار عن إتيانها من أصله لشدة إخفائي لتعيين وقت إتيانها .
الوجه الثالث : أن الهمزة في قوله : أخفيها ، هي همزة السلب لأن العرب كثيرا ما تجعل الهمزة أداة لسلب الفعل ، كقولهم : شكا إلي فلان فأشكيته أي أزلت شكايته ، وقولهم : عقل البعير فأعقلته ، أي أزلت عقاله .
وعلى هذا فالمعنى : أكاد أخفيها أي أزيل خفاءها بأن أظهرها لقرب وقتها ، كما قال تعالى : اقتربت الساعة الآية [ 54 ] ، وهذا القول مروي عن أبي علي ، كما نقله عنه الألوسي في تفسيره ، ونقله النيسابوري في تفسيره عن أبي الفتح الموصلي .
ومنه قول امرئ القيس بن عابس الكندي :
فإن تدفنوا الداء لا نخفه وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
أما على الرواية المشهورة بفتح النون من : لا نخفه ، فلا شاهد في البيت إلا على قراءة من قرأ : " أكاد أخفيها " بفتح الهمزة وممن قرأ بذلك أبو الدرداء وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وحميد ، وروي مثل ذلك عن ابن كثير وعاصم ، وإطلاق خفاه يخفيه بفتح الياء بمعنى أظهره إطلاق مشهور صحيح ، إلا أن القراءة به لا تخلو من شذوذ .
ومنه البيت المذكور على رواية فتح النون وقول كعب بن زهير أو غيره :
دأب شهرين ثم شهرا دميكا بأريكين يخفيان غميرا
[ ص: 337 ]
خفاهن من إنفاقهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلب
هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله
الوجه الخامس : أن كاد تأتي بمعنى أراد ، وعليه فمعنى : أكاد أخفيها أريد أن أخفيها ، وإلى هذا القول ذهب الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم كما نقله عنهم الألوسي وغيره .
قال في المحتسب ، ومن مجيء كاد بمعنى أراد ، قول الشاعر : ابن جني
كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى
ومنه قول العرب لا أفعل كذا ولا أكاد أي لا أريد كما نقله بعضهم .
الوجه السادس : أن كاد من الله تدل على الوجوب ، كما دلت عليه عسى في كلامه تعالى نحو : قل عسى أن يكون قريبا [ 17 \ 51 ] ، أي هو قريب .
وعلى هذا فمعنى : أكاد أخفيها أنا أخفيها .
الوجه السابع : أن كاد صلة ، وعليه فالمعنى إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى الآية ، واستدل قائل هذا القول بقول زيد الخيل :
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما أن يكاد قرنه يتنفس
[ ص: 338 ]
إذا غير النأي المحبين لم يكد رسيس الهوى من حب مية يبرح
قالوا : ومن هذا المعنى قول أبي النجم :
وإن أتاك نعي فاندبن أبا قد كاد يطلع الأعداء والخطبا
وقد قدمنا أن أرجح الأقوال الأول ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي .
لا يخفى أنه من سؤل موسى الذي قال له ربه إنه آتاه إياه بقوله : قال قد أوتيت سؤلك ياموسى [ 20 \ 36 ] ، وذلك صريح في حل العقدة من لسانه ، وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على بقاء شيء من الذي كان بلسانه كقوله تعالى عن فرعون : أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين [ 43 \ 52 ] .
وقوله تعالى عن موسى : وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي الآية [ 28 ] .
والجواب أن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، لم يسأل زوال ما كان بلسانه بالكلية ، وإنما سأل زوال القدر المانع من أن يفقهوا قوله ، كما يدل عليه قوله : يفقهوا قولي .
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى : واحلل عقدة من لساني ، ما نصه : وما سأل أن يزول ذلك بالكلية ، بل بحيث يزول العي ويحصل لهم فهم ما يريد منه ، وهو قدر الحاجة ، ولو سأل الجميع لزال ، ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة ، ولهذا بقيت بقية ، قال تعالى إخبارا عن فرعون أنه قال : أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين [ 43 52 ] ، أي يفصح بالكلام .
وقال : الحسن البصري واحلل عقدة من لساني ، قال : حل عقدة واحدة ، ولو سأل أكثر من ذلك أعطي .
[ ص: 339 ] وقال : شكا ابن عباس موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل ، وعقدة لسانه ، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام ، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون ردءا له ، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه ، فآتاه سؤله ، فحل عقدة من لسانه .
وقال : ذكر عن ابن أبي حاتم عمر بن عثمان ، حدثنا عن بقية أرطأة بن المنذر ، حدثني بعض أصحاب عنه ، قال : أتاه ذو قرابة له فقال له : ما بك بأس ، لولا أنك تلحن في كلامك ، ولست تعرب في قراءتك ، فقال محمد بن كعب القرظي : يا ابن أخي ألست أفهمك إذا حدثتك ؟ قال نعم ، قال : فإن موسى عليه السلام إنما سأل ربه أن يحل عقدة من لسانه كي يفقه بنو إسرائيل قوله ، ولم يزد عليها ، انتهى كلام ابن كثير بلفظه .
وقد نقل فيه عن الحسن البصري وابن عباس ما ذكرنا من الجواب ، ويمكن أن يجاب أيضا بأن ومحمد بن كعب القرظي فرعون كذب عليه في قوله : هو أفصح مني لسانا [ 28 ] ، يدل على اشتراكه مع هارون في الفصاحة ، فكلاهما فصيح ، إلا أن هارون أفصح ، وعليه فلا إشكال ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فقولا إنا رسولا ربك الآية .
يدل على أنهما رسولان وهما موسى وهارون ، وقوله تعالى : فقولا إنا رسول رب العالمين [ 26 \ 16 ] ، يوهم كون الرسول واحدا .
والجواب من وجهين :
الأول : أن معنى قوله : إنا رسول رب العالمين أي كل واحد منا رسول رب العالمين ، كقول البرجمي : [ الطويل ]
فإني وقيارا بها لغريب
وإنما ساغ هذا لظهور المراد من سياق الكلام .الوجه الثاني : أن أصل الرسول مصدر كالقبول والولوع ، فاستعمل في الاسم فجاز جمعه ، وتثنيته نظرا إلى كونه بمعنى الوصف وساغ إفراده مع إرادة المثنى أو الجمع نظرا إلى أن الأصل من كونه مصدرا ، ومن إطلاق الرسول على غير المفرد ، قول الشاعر :
[ ص: 340 ]
ألكني إليها وخير الرسو ل أعلمهم بنواحي الخبر
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بقول ولا أرسلتهم برسول
قوله تعالى : قال فمن ربكما يا موسى .
قوله تعالى : قال فمن ربكما يقتضي أن المخاطب اثنان ، وقوله : ياموسى : يقتضي أن المخاطب واحد ، والجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أن فرعون أراد خطاب موسى وحده ، والمخاطب إن اشترك معه في الكلام غير مخاطب غلب المخاطب على غيره ، كما لو خاطبت رجلا اشترك معه آخر في شأن والثاني غائب فإنك تقول للحاضر منهما : ما بالكما فعلتما كذا والمخاطب واحد ، وهذا ظاهر .
الوجه الثاني : أنه خاطبهما معا وخص موسى بالنداء ، لكونه الأصل في الرسالة .
الثالث : أنه خاطبهما معا وخص موسى بالنداء لمطابقة رءوس الآي مع ظهور المراد ، ونظير الآية قوله تعالى : فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى [ 20 \ 117 ] ، ويجاب عنه بأن المرأة تبع لزوجها ، وبأن شقاء الكد والعمل يتولاه الرجال أكثر من النساء ، وبأن الخطاب لآدم وحده ، والمرأة ذكرت فيما خوطب به آدم بدليل قوله : إن هذا عدو لك ولزوجك [ 20 \ 117 ] فهي ذكرت فيما خوطب به آدم والمخاطب هو وحده ، ولذا قال : " فتشقى " لأن الخطاب لم يتوجه إليها هي ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي .
ظاهر هذه الآية أن آدم ناس للعهد بالنهي عن أكل الشجرة ، لأن الشيطان قاسمه بالله أنه له ناصح حتى دلاه بغرور وأنساه العهد ، وعليه فهو معذور لا عاص .
[ ص: 341 ] وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك ، وهي قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى [ 20 \ 121 ] .
والجواب عن هذا من وجهين :
الأول : هو ما قدمنا من عدم العذر بالنسيان لغير هذه الأمة .
الثاني : أن نسي بمعنى ترك ، والعرب ربما أطلقت النسيان بمعنى الترك ومنه قوله تعالى : فاليوم ننساهم الآية [ 7 \ 51 ] ، والعلم عند الله تعالى .