يفهم من هذه الآية الكريمة أن ; لأن الله تعالى قال إنها : رجس ، والرجس في كلام العرب كل مستقذر تعافه النفس . الخمر نجسة العين
وقيل : إن أصله من الركس ، وهو العذرة والنتن . قال بعض العلماء : ويدل لهذا مفهوم المخالفة في قوله تعالى في شراب أهل الجنة : وسقاهم ربهم شرابا طهورا [ 76 \ 21 ] ; لأن يفهم منه أن خمر الدنيا ليست كذلك ، ومما يؤيد هذا أن كل الأوصاف التي مدح بها تعالى خمر الآخرة منفية عن خمر الدنيا ، كقوله : وصفه لشراب أهل الجنة بأنه طهور لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون [ 37 \ 47 ] ، وكقوله : لا يصدعون عنها ولا ينزفون [ 56 \ 19 ] ، بخلاف خمر الدنيا ففيها غول يغتال العقول [ ص: 427 ] وأهلها يصدعون ، أي يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس بسببها ، وقوله : لا ينزفون ، على قراءة فتح الزاي مبنيا للمفعول ، فمعناه : أنهم لا يسكرون ، والنزيف السكران ، ومنه قول حميد بن ثور : [ الطويل ]
نزيف ترى ردع العبير يجيبها كما ضرج الضاري النزيف المكلما
يعني أنها في ثقل حركتها كالسكران ، وأن حمرة العبير الذي هو الطيب في جيبها كحمرة الدم على الطريد الذي ضرجه الجوارح بدمه ، فأصابه نزيف الدم من جرح الجوارح له ، ومنه أيضا قول امرئ القيس : [ المتقارب ]
وإذ هي تمشي كمشي النزيف يصرعه بالكثيب البهر
وقوله أيضا : [ الطويل ]
نزيف إذا قامت لوجه تمايلت تراشي الفؤاد الرخص ألا تخترا
وقول ابن أبي ربيعة أو جميل : [ الكامل ]
فلثمت فاها آخذا بقرونها شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
وعلى قراءة ينزفون بكسر الزاي مبنيا للفاعل ، ففيه وجهان من التفسير للعلماء :
أحدهما : أنه من أنزف القوم إذا حان منهم النزف وهو السكر ، ونظيره قولهم : أحصد الزرع إذا حان حصاده ، وأقطف العنب إذا حان قطافه ، وهذا القول معناه راجع إلى الأول .
والثاني : أنه من أنزف القوم إذا فنيت خمورهم ، ومنه قول الحطيئة : [ الطويل ]
لعمري لئن أنزفتموا أو صحوتموا لبئس الندامى أنتم آل أبجرا
وجماهير العلماء على أن الخمر نجسة العين لما ذكرنا ، وخالف في ذلك ربيعة ، والليث ، والمزني صاحب ، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين ، كما نقله عنهم الشافعي القرطبي في " تفسيره " .
واستدلوا لطهارة عينها بأن المذكورات معها في الآية من مال ميسر ، ومال قمار ، وأنصاب ، وأزلام ليست نجسة العين ، وإن كانت محرمة الاستعمال .
[ ص: 428 ] وأجيب من جهة الجمهور بأن قوله : رجس ، يقتضي نجاسة العين في الكل ، فما أخرجه إجماع ، أو نص خرج بذلك ، وما لم يخرجه نص ولا إجماع لزم الحكم بنجاسته ; لأن خروج بعض ما تناوله العام بمخصص من المخصصات ، لا يسقط الاحتجاج به في الباقي ، كما هو مقرر في الأصول ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " : [ الرجز ]
وهو حجة لدى الأكثر إن مخصص له معينا يبن
وعلى هذا ، فالمسكر الذي عمت البلوى اليوم بالتطيب به المعروف في اللسان الدارجي ، ويؤيده أن قوله تعالى في المسكر : فاجتنبوه ، يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء من المسكر ، وما معه في الآية بوجه من الوجوه ، كما قاله بالكولانيا نجس لا تجوز الصلاة به القرطبي وغيره .
قال مقيده - عفا الله عنه : لا يخفى على منصف أن التضمخ بالطيب المذكور ، والتلذذ بريحه واستطابته ، واستحسانه مع أنه مسكر ، والله يصرح في كتابه بأن الخمر رجس فيه ما فيه ، فليس للمسلم أن يتطيب بما يسمع ربه يقول فيه : إنه رجس ، كما هو واضح ، ويؤيده أنه - صلى الله عليه وسلم - فلو كانت فيها منفعة أخرى لبينها ، كما بين جواز أمر بإراقة الخمر ، ولما أراقها . الانتفاع بجلود الميتة
واعلم أن ما استدل به سعيد بن الحداد القروي على بأن الصحابة أراقوها في طرق طهارة عين الخمر المدينة ; ولو كانت نجسة لما فعلوا ذلك ; ولنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، كما نهاهم عن التخلي في الطرق ، لا دليل له فيه ، فإنها لا تعم الطرق ، بل يمكن التحرز منها ، لأن المدينة كانت واسعة ، ولم تكن الخمر كثيرة جدا بحيث تكون نهرا أو سيلا في الطرق يعمها كلها ، وإنما أريقت في مواضع يسيرة يمكن التحرز منها ، قاله القرطبي ، وهو ظاهر .