( ) . حكمة كتابة مقادير الخلق
روي عن الحسن أن حكمة كتابة الله تعالى لمقادير الخلق تنبيه المكلفين على عدم إهمال أحوالهم المشتملة على الثواب والعقاب ، حيث ذكر أن الورقة والحبة في الكتاب ، وزاد بعضهم حكمتين أخريين إحداهما : اعتبار الملائكة عليهم السلام موافقة المحدثات للمعلومات الإلهية ، والثانية : عدم تغير الموجودات عن الترتيب السابق في الكتاب . ولذا جاء " جف القلم بما [ ص: 398 ] هو كائن إلى يوم القيامة " - ذكر ذلك الألوسي ، وجعل قول الحسن هو الثاني في الترتيب ، والعبارة الأخيرة حديث من الأحاديث المشتهرة على الألسنة باللفظ الذي ذكره الألوسي ، ولا نعرفه مرويا بهذا اللفظ ، ولكن ورد في حديث عبد الله بن جعفر عند " الطبراني القلم قد جف بما هو كائن " وفي حديث واعلم أن عند أبي هريرة " البخاري " وورد " جف القلم " " وجفت الأقلام " في أثناء أحاديث أخرى . جف القلم بما أنت لاق
وهذا الذي قالوه في حكمة الكتابة ضعيف ، وحكمة الله البالغة فيه فوق ذلك ، ويتوقف تلمح شيء من جلالها وجمالها على تدبر النظام العام الذي قامت به السماوات والأرض والنظام الخاص بكل نوع من أنواع المخلوقات فيهما ، وعلى كون تلك النظم التي يعبر عنها في عرفنا بالسنن وبالأقدار الإلهية ، وفي عرف بعض علماء الدنيا بالنواميس أو القوى الطبيعية ، إنما ينفذها أصناف من الملائكة ، ذكر في الآية التي بعد هذه صنف الحفظة ورسل الموت منهم ، وورد في بعض التفسير المأثور أن ( والمرسلات عرفا 77 : 1 ) وما عطف عليها ( والنازعات غرقا 79 : 1 ) وما عطف عليها إلى قوله : ( فالمدبرات أمرا 79 : 5 ) أصناف منهم ، وهم الملائكة الموكلون بتدبير أمر الخلق من عند الله عز وجل ، ويؤيد ذلك ما جاء من أحاديث منها الصحاح والحسان والضعاف ، يدل مجموعها على أن الله تعالى قد وكل بكل نوع من أنواع الخلق ملائكة هم أرواح النظام له . فإذا كان الخالق العليم الحكيم قد جعل لكل شيء قدرا ، وجعل لكل شيء من أسباب المعايش كالرياح والأمطار وغيرها خزائن لا ينزلها إلا بقدر معلوم ، وإذا كان من حكمته أن جعل لهذا الملك العظيم الذي يدار بأعلى درجة من التقدير والتنظيم عرشا عظيما هو مصدر التدبير ، أفلا يكون من كمال الحكمة والإتقان أن يكون لذلك كتاب مبين هو مظهر ذلك النظام والتقدير ، كما يعهد للممالك المنظمة من كتب النظم والقوانين ؟ بلى ولله المثل الأعلى ، وإن لنا فيما نرى في خلقه من نظام وكمال وفي التكوين آيات على كمال علمه وحكمته ، ونفوذ إرادته وقدرته ، وفيما نرى من كسب البشر من نقص وعجز دلائل على تنزيهه عن مشابهة الخلق ، وعلى أن ملائكته أكمل من البشر في تنفيذ ما قدر وما أمر ( لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون 21 : 27 ) ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون 66 : 6 ) ونكتفي بهذا التلميح الآن ، فقد طال الكلام في تفسير هذه الآية كما طال في تفسير ما تقدم من هذا الجزء ، ولعلنا نعود إلى هذه المسألة .