وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا هذا رفض آخر للعود في ملتهم مؤكد أبلغ التأكيد معطوف على مناسبه ، والتعبير يدل على نفي الشأن ، وهو أبلغ من نفي الفعل ؛ لأنه نفي له بالدليل ، وهو كونه غير مستطاع ولا جار على سنن الله في الاجتماع ، والمعنى : ليس من شأننا أن نعود فيها في حال من الأحوال إلا حال مشيئة الله ربنا المتصرف في جميع شئوننا ، فهو وحده القادر على ذلك لا يقدر عليه غيره لا أنتم ولا نحن أيضا ؛ لأننا موقنون بأن ملتكم باطلة ضارة مفسدة ، وملتنا هي الحق التي بها صلاح الناس وعمران الأرض ، والموقن لا يستطيع إزالة يقينه ولا تغييره ، وإنما ذلك بيد مقلب القلوب سبحانه ، ورهن مشيئته وسع ربنا كل شيء علما فعنده من العلم بأسباب الإيمان والكفر والهدى والضلال والصلاح والفساد ما ليس عندكم ، ولا عند أحد من الخلق ، ومشيئته تجري بحسب علمه وحكمته في خلقه ، ومما كان يعلمه عليه السلام من حكمته تعالى وسننه في خلقه أنه يقيم حجته بأهل الحق على أهل الباطل ، وينصرهم عليهم بالقول والفعل ما داموا ناصرين له ، وقائمين بما هداهم إليه منه ، فكأنه يقول لهم : إذا كان الأمر كذلك فلا تطمعوا إذا أن يشاء ربنا الحفي بنا عودتنا في ملتكم بعد إذ نجانا بفضله منها ، وأقام الحجة عليكم بنا ، وما كان تعالى ليدحض حجته ويبطل سنته .
فهذا الاستثناء موئس للملأ من قوم شعيب من عودته عليه السلام مع من آمن معه في ملتهم ؛ لأنه بعد أن نفى وقوع العود منهم باختيارهم نفيا مؤكدا بأنه ليس من شأنهم [ ص: 7 ] ولا مما يجيء من قبلهم في حال ما من الأحوال التي تطرأ عليهم كالترغيب والترهيب والرجاء في المنافع والخوف من المضار ، ومنها الإخراج من الديار ، واستثنى حالا واحدة وهي مشيئة الله تعالى وحده ، فدل على عموم النفي فيما عدا المستثنى ، وقد يستعمل لتوكيده من غير ملاحظة لمتعلق المشيئة هل هو ممكن يجوز أن يقع أم لا ؟ كقوله تعالى : سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ( 87 : 6 ، 7 ) أو للتنبيه على النفي بكرم الله وفضله لا بالإيجاب عليه ، وهو الوجه الذي اختاره شيخنا رحمه الله تعالى في تفسير سورة الأعلى ، ولا يخل بتوكيد عموم النفي جواز تعلق المشيئة بالنفي في كلام شعيب عليه السلام ، والقرائن اللفظية والمعنوية تدل على عدم وقوع هذا الجائز ، وهو أنه تعالى لا يشاء عودته مع من آمن معه في ملة قومهم ، فهو قد قرر أن هذا شيء لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، فطلبه من غيره عبث ، يؤكده ذكر الرب مضافا إلى ضمير المتكلم ومن معه ، فأفاد بدلالة الالتزام أو الاقتضاء أنه لا يشاء لهم إلا ما عودهم بحسن تربيته إياهم ، ولطفه وعنايته بهم ؛ إذ أنجاهم من تلك الملة الباطلة ، وهو تأييد عصمة رسولهم وحفظ جماعتهم من العود فيها ، فكان هذا بمعنى قول عبد أمين أراد أن يغويه بعض المغوين ، ويغريه بخيانة سيده الحفي به ، وصرف بعض ماله فيما يضره هو ، ويفسد عليه نفسه : ليس هذا من شأني ، ولا مما يدخل في تصرفي إلا أن يشاء سيدي الصالح المصلح المعتني بشأني ، وهو أعلم مني بأمري . فالتعبير ليس مسوقا لتقرير حجة الأشاعرة على جواز مشيئة الله لكفرهم بالفعل ، ولا حجة المعتزلة على وجوب رعاية الصلاح والأصلح لهم ، ولغيرهم بالعقل ، ولكنه يدل بطريق الالتزام على ما ذكرنا من وأتباعهم المستقيمين على دينهم ومضي سنته ووعده بتأييدهم المصرح به في آيات أخرى كقوله تعالى : عناية الرب سبحانه وتعالى برسله إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ( 40 : 51 ) وقوله : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ( 37 : 171 - 173 ) فهو لن يشاء كفرهم بالفعل ، بل يختار لهم الأصلح بحكمته وفضله لا بإيجاب العقل .
وقد روى وغيره عن : ابن جرير ، أنه قال في الآية : وما كان ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله إلا أن يشاء الله ربنا ، والله لا يشاء الشرك ، ولكن يقول : إلا أن يكون الله قد علم شيئا فإنه وسع كل شيء علما ا هـ ، ولعله يريد أنه لا يشاء ذلك ؛ لأنه مخالف لسنته الحكيمة وفضله العظيم على رسله ومن آمن بهم ، وإن كان لا يقع من أهل الشقاء بسوء اختيارهم إلا بإرادته ومقتضى سنته ، وسننه في الفريقين مختلفة كما شرحناه مرارا . السدي
وقد سبق مثل هذا الاستثناء في سورة الأنعام ، حكاية عن إبراهيم الخليل ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، إذ قال لقومه : ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون ( 6 : 80 ) [ ص: 8 ] وقد اخترنا هنالك أنه استثناء من عموم الأوقات ، وأنه منقطع معناه : لكن إن شاء ربي أن يصيبني في وقت من الأوقات مكروه من قبل ما تشركون به كوقوع صنم علي يشجني ، فإنه يقع بقدرته تنفيذا لمشيئته ، لا بقدرة شركائكم ولا بمشيئتهم ؛ لأنهم لا قدرة لهم ولا مشيئة ، ثم علل ذلك بمثل ما علله به بعده شعيب عليهما الصلاة والسلام ، وعلى نبينا وآله فقال : وسع ربي كل شيء علما أي : ومعبوداتكم لا تعلم شيئا إلخ ، واخترنا هنا جعل الاستثناء من أعم الأحوال لا الأوقات ، وإن جاز الجمع بينهما ؛ لأن الوقت لا شأن له هنا ، على أن عموم الأحوال يستلزم عموم الأوقات .
ثم أكد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك كله بقوله : على الله توكلنا أي : إليه وحده وكلنا أمرنا مع قيامنا بكل ما أوجبه علينا من المحافظة على الدين الذي شرعه لنا ، فهو يكفينا أمر تهديدكم ، وكل ما لم يجعله في استطاعتنا من جهادكم ، وذلك أن من أصول المعرفة بالله عز وجل التي يعرفها جميع رسله أن من توكل عليه كفاه : ومن يتوكل على الله فهو حسبه ( 65 : 3 ) وإن من شروط التوكيل الصحيح في الأمر القيام بكل ما أوجبه الله تعالى فيه من الأحكام الشرعية ، ومراعاة ما اقتضته حكمته فيه من الأسباب والسنن الكونية والاجتماعية ، فمن يترك فهو جاهل مغرور ، لا متوكل منصور ولا مأجور ، وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن سأله أيترك ناقته سائبة ، ويتوكل على الله تعالى ؟ : العمل بالأسباب رواه اعقلها وتوكل الترمذي ، وقال تعالى لرسوله بعد أمره بمشاورة أصحابه في غزوة أحد : فإذا عزمت فتوكل على الله ( 3 : 159 ) وإنما يكون العزم بعد الأخذ بالأسباب ومنها مظاهرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ يومئذ بلبس درعين ، وقد بينا ذلك مفصلا في مواضع من هذا التفسير .
والخلاصة : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدأ جوابه للملأ من قومه بالتعجب من تهديدهم وإنذارهم وإقامة الأدلة الدينية والعقلية على امتناع عودهم إلى ملة الكفر باختيارهم ، وعدم استطاعة أحد على إجبارهم عليه غير الله تعالى الفعال لما يريد ، والاستدلال على أن هذا مما لا يريده ، وثنى ببيان توكلهم على الله تعالى الذي يكفي من توكل عليه ما أهمه ، وهو فوق كسبه واختياره ، فتجتمع له العناية الكسبية والوهبية ، ثم ثلث بالدعاء الذي لا يكون شرعيا مرجو الإجابة إلا بعد القيام بما في الطاقة من العمل الكسبي ، والتوكل القلبي ، فقال :