الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون . فصل في حقيقة السحر وأنواعه

                          كان السحر فنا من فنون قدماء المصريين يتعلمونه في مدارسهم العالية مع سائر علوم الكون ، وكان كذلك عند أقرانهم من البابليين وكذا الهنود وغيرهم ، ولا يزال يؤثر عن الوثنيين منهم أعمال سحرية غريبة اهتدى علماء الإنكليز وغيرهم من الإفرنج إلى تعليل بعضها أو كشف حقيقته ، ولا يزالون يجهلون تعليل بعض ، والمعنى الجامع للسحر أنه أعمال غريبة من التلبيس والحيل تخفى حقيقتها على جماهير الناس ؛ لجهلهم بأسبابها ، فمتى عرف سبب شيء منها بطل إطلاق اسم السحر عليه ؛ ولذلك كان الأقوام الجاهلون يعدون آيات الرسل الكونية التي يؤيدهم الله تعالى بها من قبيل السحر ، يجعلون هذا مانعا من دلالتها على صدقهم وتأييد الله تعالى لهم ؛ لأن السحر صنعة تتلقى بالتعليم والتمرين ، فيمكن لكل أحد أن يكون ساحرا إذا أتيح له من يعلمه السحر ، ومن المعلوم في التاريخ القديم والحديث أن السحر لا يروج إلا بين الجاهلين ، وله المكانة المهيبة المخيفة بين أعراق القبائل في الهمجية ولا يكاد يوجد في البلاد التي ينتشر فيها العلم والعرفان ، بل يسمى أهله بأسماء أخرى كالمشعوذين والمحتالين والدجالين .

                          وقد سبق لنا بيان حقيقة السحر في قصة هاروت وماروت من جزء التفسير الأول ، وفي بعض مجلدات المنار ، وخلاصته أنه ثلاثة أنواع : ( النوع الأول ) : ما يعمل بالأسباب الطبيعة من خواص المادة المعروفة للعامل المجهولة عند من يسحرهم بها ، ومنها الزئبق الذي قيل : إن سحرة فرعون وضعوه في حبالهم وعصيهم كما سيأتي ، ولو شاء علماء الطبيعة والكيمياء في هذا العصر أن يجلوا أنفسهم سحرة في بلاد أواسط إفريقية الهمجية وأمثالها من البلاد الجاهلة التي يروج فيها السحر العتيق لأروهم من عجائب الكهرباء ، وغيرها ما يخضعونهم به لعبادتهم لو ادعوا الألوهية فيهم ، دع دعوى النبوة أو الولاية ، وقد اجتمع السحرة في بعض هذه البلاد على بعض السياح الغربيين ليرهبوهم بسحرهم ، وكانوا في مكان بارد ، والفصل شتاء فأخذ بعض هؤلاء السياح قطعة من الجليد وجعلها بشكل عدسي بقدر ما يرى من قرص الشمس ، وقال لهم : إنني أعلم منكم بالسحر ، وإنني أقدر به أن أجعل في يدي شمسا كشمس السماء ثم وجه عدستيه إلى الشمس [ ص: 42 ] عند بزوغها ، واكتمال ضوئها فصارت بانعكاس النور بها كالشمس لم يستطع السحرة أن يثبتوا نظرهم إليها فخضعوا له ولمن معه ، وكفوا شرهم عنهم خوفا منهم .

                          ( النوع الثاني ) : الشعوذة التي مدار البراعة فيها على خفة اليدين في إخفاء بعض الأشياء ، وإظهار بعض ، وإراءة بعضها بغير صورها ، وغير ذلك مما هو معروف في هذه البلاد وغيرها من بلاد الحضارة بكثرة المكتسبين بها من الوطنيين والغرباء ، ولم يبق أحد في هذه البلاد يسميها سحرا .

                          ( النوع الثالث ) : ما مداره على تأثير الأنفس ذوات الإرادة القوية في الأنفس الضعيفة ذات الأمزجة العصيبة القابلة للأوهام والانفعالات التي تسمى في عرف علماء هذا العصر بالهستيرية ، وهذا النوع هو الذي قيل : إن أصحابه يستعينون على أعمالهم بأرواح الشياطين ، ومنهم الذين يكتبون الأوفاق والطلسمات للحب والبغض ، وغير ذلك ، ومن يقول : إن للحروف خواصا وتأثيرات ذاتية يخرج عمل الأوفاق والنشرات ، وما في معناها من السحر ، ومن هذا النوع ما استحدث في هذا العصر من التنويم المغناطيسي ، وأخباره مشهورة .

                          ومما سبق لنا بيانه في هذا الباب تخطئة من قال من المتكلمين : إن السحر من خوارق العادات الذي هو الجنس الجامع لمعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء ، وفاتهم أن السحر صناعة تتلقى بالتعليم ، كما ثبت بنص القرآن ، وبالاختبار الذي لم يبق فيه خلاف بين أحد من علماء الكون في هذا العصر .

                          ولعلمائنا كلام كثير في السحر بعضه أوهام ، وإننا ننقل هنا كلام بعض كبار محققي المفسرين فيه ، ومن أخصره وأفيده قول ابن فارس : هو إخراج الباطل في صورة الحق ، وقال الراغب الأصفهاني في مفرداته لغريب القرآن ما نصه : تعريف السحر ومأخذه من اللغة :

                          السحر : طرف الحلقوم والرئة ، وقيل : انتفخ سحره ، وبعير سحر : عظيم السحر ، والسحارة ( بالضم ) : ما ينزع من السحر عند الذبح فيرمي به ، وجعل بناءه بناء النفاية والسقاطة ، وقيل : منه اشتق السحر ، وهو إصابة السحر ، والسحر يقال على معان .

                          ( الأول ) : خداع وتخييلات لا حقيقة لها نحو ما يفعله المشعبذ بصرف الأبصار عما يفعله لخفة يده ، وما يفعله النمام بقول مزخرف عائق للأسماع ، وعلى ذلك قوله تعالى : سحروا أعين الناس واسترهبوهم ( 7 : 116 ) وقال : يخيل إليه من سحرهم ( 20 : 66 ) [ ص: 43 ] وبهذا النظر سموا موسى عليه السلام ساحرا فقالوا : يا أيها الساحر ادع لنا ربك ( 43 : 49 ) .

                          ( والثاني ) : استجلاب معاونة الشياطين بضرب من التقرب إليهم كقوله تعالى : هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم ( 26 : 221 ، 222 ) وعلى ذلك قوله تعالى : ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ( 2 : 102 ) .

                          ( والثالث ) ما يذهب إليه الأغتام ، وهو اسم لفعل يزعمون أنه من قوته يغير الصور والطبائع ، فيجعل الإنسان حمارا ، ولا حقيقة لذلك عند المحصلين ، وقد تصور من السحر تارة حسنه فقيل : " إن من البيان لسحرا " وتارة دقة فعله حتى قالت الأطباء : الطبيعة ساحرة وسموا الغذاء سحرا من حيث إنه يدق ويلطف تأثيره ا هـ .

                          وقد عقد الشيخ أبو بكر أحمد على الرازي المعروف بالجصاص من أئمة الحنفية في القرن الرابع بابا خاصا من تفسيره الجليل ( أحكام القرآن ) لبيان معنى السحر ، وحكم الساحر عند كلامه على قوله تعالى : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ( 2 : 102 ) قال في أوله : " الواجب أن نقدم القول في السحر لخفائه على كثير من أهل العلم فضلا عن العامة ، ثم نعقبه بالكلام في حكمه في مقتضى الآية في المعاني والأحكام فنقول : إن أهل اللغة يذكرون أن أصله في اللغة لما لطف وخفي سببه ، والسحر عندهم بالفتح هو الغذاء لخفائه ولطف مجاريه ، قال لبيد :


                          أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب

                          " قيل فيه وجهان : نعلل ونخدع كالمسحور المخدوع - والآخر : نغذى ، وأي الوجهين كان فمعناه الخفاء ، وقال آخر :


                          فإن تسألينا فيم نحن فإننا     عصافير من هذا الأنام المسحر

                          " وهذا البيت يحتمل من المعنى ما احتمله الأول ، ويحتمل أيضا أنه أراد بالسحر أنه ذو سحر ، والسحر : الرئة وما يتعلق بالحلقوم ، وهذا يرجع إلى معنى الخفاء أيضا ، ومنه قول عائشة : توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين سحري ونحري ، وقوله تعالى : إنما أنت من المسحرين ( 26 : 185 ) يعني من المخلوق الذي يطعم ويسقى ، ويدل عليه قوله تعالى : وما أنت إلا بشر مثلنا ( 26 : 186 ) وكقوله تعالى : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ( 25 : 75 ) ويحتمل أنه ذو سحر مثلنا ، وإنما يذكر السحر في مثل هذه المواضع لضعف هذه الأجسام ولطاقتها ورقتها ، وبها مع ذلك قوام الإنسان - فمن كان بهذه الصفة فهو [ ص: 44 ] ضعيف محتاج - وهذا هو معنى السحر في اللغة ، ثم نقل هذا الاسم إلى كل أمر خفي سببه ، وتخيل على غير حقيقته ، ويجري مجرى التمويه والخداع ، ومتى أطلق ولم يقيد أفاد ذم فاعله ، وقد أجري مقيدا فيما يمتدح ويحمد ، كما روي : " إن من البيان لسحرا " .

                          وهاهنا ذكر الجصاص روايته لهذا الحدث ، وهو في الصحيح وأطال الكلام عليه في زهاء ورقة كبيرة ذكر في أثنائه سحر سحرة موسى لأعين الناس ، وتخيلهم أن حبالهم وعصيهم تسعى ، ولم تكن تسعى ، وذكر ما قيل من حيلتهم في ذلك بوضع الزئبق فيها وتحريك النار الخفية للزئبق فكان سبب حركتها ، وسيأتي نقل ذلك عنه قريبا ، ثم ذكر قصة تاريخية في أصل السحر ببابل ، وقفى عليها ببيان أنواعه فقال : كلام الجصاص في السحر وأنواعه .

                          " وإذ‌‌‌‌‌ قد بينا أصل السحر في اللغة ، وحكمه عند الإطلاق والتقييد فلنقل في معناه في التعارف والضروب الذي يشتمل عليها هذا الاسم ، وما يقصد به كل فريق من منتحليه ، والغرض الذي يجري إليه مدعوه ، فنقول وبالله التوفيق : إن ذلك ينقسم إلى أنحاء مختلفة

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية