وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ ص: 14 ] " سنن الله وحكمه في هذه القصص وأمثالها والاعتبار بها "
من سنة القرآن الحكيم أنه يبين العقائد بدلائلها ، والأحكام مؤيدة بحكمها وعللها ، والقصص مقرونة بوجوه العبرة والموعظة بها وسنن الاجتماع فيها ، كما ترى في هذه الآيات التسعة التي قفى بها على قصص القوم المهلكين .
وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون الواو في أول الآية لعطف الجملة ، وما بعدها إلى آخر السياق الذي وضعنا له العنوان على مجموع ما قبلهن من القصص ، لمشاركته إياه في كونه حكما له وعبرا مستفادة منه ، فعطف الجمل يشمل الكثير منها ، كالسياق برمته ، ولا وجه للفصل هنا ، والقرية : المدينة الجامعة لزعماء الأمة ورؤسائها التي يعبر عنها في عرف هذا العصر بالعاصمة كما تقدم مرارا ، وكان الأنبياء يبعثون في القرى الجامعة ؛ لأن سائر البلاد تتبع أهلها إذا آمنوا ، والبأساء : الشدة والمشقة كالحرب والجدب وشدة الفقر ، والضراء : ما يضر الإنسان في بدنه أو نفسه أو معيشته والأخذ بها : جعلها عقابا ، وقد تكون تجربة وتربية نافعة ، وتقدم مثل هذا في قوله تعالى من سورة الأنعام : ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ( 6 : 42 ) فيراجع ( في ص 345 ج 7 ط الهيئة ) فإنه بمعنى ما هنا ، ولكن السياق مختلف ، فلما كان ما هنا قد ورد عقب قصص طائفة من الرسل ، جعل هذا المعنى قاعدة كلية وسنة مطردة في الرسل مع أقوامهم ليعتبر به كل من سمعه أو قرأه في عصر التنزيل وما بعده ، ولما كان ما هنالك قد ورد في سياق تبليغ خاتم الرسل للدعوة ومحاجة قومه ، جعل خطابا خبريا له ، لتسليته وتثبيت قلبه من جهة ، ولتخويف كفار قريش وإنذارهم من جهة أخرى ، وهذا ملاحظ هنا أيضا ، ولكن بالتبع للاعتبار بالسنة العامة لا بالقصد الأول .
والمعنى : ذلك ، وما أرسلنا نبيا في قومه إلا وقد أنزلنا بهم الشدائد والمصائب بعد إرساله أو قبيله ، لنعدهم ونؤهلهم بها للتضرع ، وهو إظهار الضراعة ؛ أي الضعف والخضوع لنا والإخلاص في دعائنا بكشفها ، فـ " لعل " تفيد الإعداد للشيء ، وجعله مرجوا ، ومما ثبت بالتجارب وتقرر عند علماء النفس والأخلاق أن شأن الرسل مع أقوامهم الهالكين ، فالمؤمن قد يشغله [ ص: 15 ] الرخاء وهناء العيش فينسيه ضعفه وحاجته إلى ربه ، والشدائد تذكره به ، والكافر بالنعم قد يعرف قيمتها بفقدها ، فينقلب شاكرا بعد عودها ، بل الكافر بالله عز وجل قد تنبه الشدائد والأهوال مركز الشعور بوجود الرب الخالق المدبر لأمور الخلق في دماغه ، وتذكره بما أودع في فطرته من وجود مصدر لنظام الكون وأقداره ، كما وقع كثيرا ، والآيات في هذا كثيرة تقدم بعضها ، وقد روي لنا أن الحرب العظمى قد كان لها هذا التأثير حتى في أقل الناس تدينا ، وهم أهل مدينة الشدائد وملاحج الأمور مما يربي الناس ، ويصلح من فسادهم باريس ، فكانت المعابد ترى مكتظة بالمصلين في أثناء شدائد الحرب .
ومن مباحث البلاغة أن نكتة خلو جملة أخذنا أهلها الحالية من الواو ، " وقد " هي أن الأصل في المقترنة بهما أن يكون مضمونها مقدما على العامل فيها كالجملة الاسمية ، فإذا قلت : ما فعل زيد كذا إلا ، وقد أعد له عدته ، كان المتبادر أنه أعدها قبل الشروع في فعله لأجله ، كقوله تعالى في الجملة الاسمية : وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ( 28 : 59 ) أي : متلبسون بالظلم من قبل لا حال الإهلاك فقط ، وإذا قيل : ما فعله إلا أعد له عدته شمل إعدادها قبله لأجله وهي الحال السابقة ، وإعدادها عند الشروع فيه وهي الحال المقارنة ، بل هذه المتبادرة إلى الذهن هنا ، كقولك : ما سألته إلا أجابني ؛ أي : عند السؤال ، ولا يصح أن تقول : إلا وقد أجابني ، ويصح أن تقول : ما سألته إلا وقد أذن لي ؛ أي : قبل السؤال ، فإن قلنا : إنه يتعين أن تكون الحال مقارنة في الآية ، اقتضى ذلك أن يكون ما أفادته هي وما بعدها من الابتلاء بالسيئة ثم بالحسنة ثم بما يترتب عليها من الكثرة وكفر النعمة واقعا كله بعد إرسال الأنبياء وفي عهدهم ، وهو قد يصدق في قوم نوح دون من بعده فلذلك قلنا : إنها تشمل الحال السابقة والمقارنة ، فليتأمل فإننا لم نر لأحد بحثا في هذه المسألة ، ولكن الإمام عبد القاهر الجرجاني حقق أن الحال المفردة تفيد المقارنة ، والجملة الحالية تفيد سبق مضمونها ، وفرق بعض الفقهاء بين قولك : على أن أعتكف صائما ، وقولك : على أن أعتكف وأنا صائم ، وقد بينا هذا في التفسير : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا ( 4 : 43 ) الآية : ( فراجعه في ص 92 وما بعدها ج 5 ط الهيئة ) .