ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين وقال موسى يافرعون إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم ( موسى عليه الصلاة والسلام ) قصة
هو موسى بن عمران - بكسر العين - وأهل الكتاب يضبطون اسم والده بالميم في آخره ( عمرام ) وبفتح أوله ، وجميع الأمم القديمة والحديثة تتصرف في نقل الأسماء من لغات غيرها إلى لغتها ، ومعنى كلمة ( موسى ) المنتاش من الماء ؛ أي : الذي أنقذ منه ، وروى أبو الشيخ ، عن أنه قال : إنما سمي " ابن عباس موسى ؛ لأنه ألقي بين ماء وشجر ، [ ص: 34 ] فالماء بالقبطية " مو " والشجر " سى " وذلك أن أمه وضعته بعد ولادته في تابوت ( صندوق ) أقفلته إقفالا محكما ، وألقته في اليم ( بحر النيل ) خوفا من فرعون وحكومته أن يعلموا به فيقتلوه ؛ إذ كانوا يذبحون ذكور بني إسرائيل عند ولادتهم ، ويتركون إناثهم ، وقالت لأخته : قصيه ؛ أي : تتبعيه ؛ لتعلم أين ينتهي ؟ ومن يلتقطه ؟ حتى لا يخفى عليها أمره ، فما زالت أخته تراقب التابوت على ضفاف اليم حتى رأت آل فرعون ملك مصر يلتقطونه إلى آخر ما قصه الله تعالى من خبره في سورة القصص .
وقد ذكرت قصته في عدة سور مكية بين مطولة ومختصرة أولها هذه السورة ( الأعراف ) فهي أول السور المكية في ترتيب المصحف التي ذكرت فيها قصته ، ومثلها في استقصاء قصته طه ويليها سائر الطواسين الثلاثة ( الشعراء والنمل والقصص ) وقد ذكر بعض العبر من قصته في سور أخرى كيونس وهود والمؤمنين ، وذكر اسمه في سور كثيرة غيرها بالاختصار ولا سيما المكية ، وتكرر ذكره في خطاب بني إسرائيل من سورة البقرة المدنية ، وذكر في غيرها من الطول والمئين والمفصل حتى زاد ذكر اسمه في القرآن على 130 مرة فلم يذكر فيه نبي ولا ملك كما ذكر اسمه .
وسبب ذلك أن قصته أشبه قصص الرسل عليهم السلام بقصة خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله من حيث إنه أوتي شريعة دينية دنيوية ، وكون الله تعالى به أمة عظيمة ذات ملك ومدنية ، وسنبين ما فيها وفي غيرها من حكم التكرار ، واختلاف التعبير في مواضعها إن شاء الله تعالى .
قال الله تعالى : ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه هذه القصة معطوفة على جملة ما قبلها من القصص من قوله تعالى : لقد أرسلنا نوحا إلى قوله : وإلى مدين أخاهم شعيبا القصة ، فهي نوع وهن نوع آخر ، والفرق بين النوعين أن تلك القصص متشابهة في تكذيب الأقوام فيها لرسلهم ومعاندتهم إياهم وإيذائهم لهم ، وفي عاقبة ذلك بإهلاك الله تعالى إياهم بعذاب الاستئصال ، ولذلك عطف كل واحدة منهن على الأولى بدون إعادة ذكر الإرسال للإيذان بأنها نوع واحد ، فقال : وإلى عاد أخاهم هودا ، وإلى ثمود أخاهم صالحا ولوطا وإلى مدين أخاهم شعيبا وقد أعاد في قصة موسى ذكر الإرسال للتفرقة ، ولكن بلفظ البعث ، وهو أخص وأبلغ من لفظ الإرسال ؛ لأنه يفيد معنى الإثارة والإزعاج إلى الشيء المهم ، ولم يذكر في القرآن إلا في بعث الموتى ، وفي الرسالة العامة ؛ أي : بعث عدة من الرسل ، وفي بعثة نبينا وموسى خاصة ، وكذا في بعث نقباء بني إسرائيل ، وبعث من انتقم منهم وعذبهم وسباهم حين أفسدوا في الأرض ، فالتعبير بلفظ البعث هنا يؤكد ما أفادته إعادة العامل من التفرقة [ ص: 35 ] بين نوعي الإرسال ، أعني أن لفظه الخاص مؤكد لمعناه العام ، كما يؤكدها عطف هذه القصة على أولئك بـ " ثم " التي تدل على الفصل والتراخي إما في الزمان ، وإما في النوع أو الرتبة ، والأخير هو المراد هنا ، وبيانه أن هذا الإرسال وما ترتب عليه وأعقبه في قوم موسى مخالف لجملة ما قبله مخالفة تضاد ، فقد أنقذت به أمة من عذاب الدنيا ، وهو تعبيد فرعون وملئه لها وسومهم إياها أنواع الخزي والنكال ، واهتدت إلى عبادة الله تعالى وحده وإقامة شرعه ، فأعطاها في الدنيا ملكا عظيما ، وجعل منها أنبياء وملوكا ، وأعد بذلك المهتدين منها لسعادة الآخرة الباقية فأين هذا الإرسال من ذلك الإرسال ، الذي أعقب أقوام أولئك الرسل في الدنيا عذاب الاستئصال ، وفي الآخرة ما هو أشد وأبقى من الخزي والنكال ؟ وقد يظهر للتراخي الزماني وجه باعتبار كون العطف على قصة نوح ؛ فإن ما عطف عليها من قصص من بعده قد جعل تابعا ومتمما لها بعدم إعادة العامل " أرسلنا " كما تقدم آنفا ، وإلا فإن شعيبا ، وهو آخر أولئك الرسل كان في زمن موسى وهو حموه ، وقد أوحى الله تعالى إلى موسى وهو لديه مع زوجه وأولاده في سيناء ، وأرسله منها إلى فرعون وملئه لإنقاذ بني إسرائيل من حكمه وظلمه ، ويؤيد ذلك كله أن الله تعالى ذكر إرسال نوح في سورة يونس وقفى عليه بقوله : ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم ( 10 : 74 ) إلخ ، وقال بعد هذا : ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه ( 10 : 75 ) ومن المعلوم عقلا واستنباطا أن التراخي بين بعثة نوح ومن بعده من الرسل زماني ؛ إذ كان بعد تناسل الذين نجوا معه في السفينة ، وتكاثرهم وصيرورتهم شعوبا وقبائل ، وهذا الإجمال في سورة يونس في الرسل مبني على التفصيل الذي سبقه في سورة الأعراف التي نزلت قبلها أو هو أعم منه ؛ فإن الأمم قد كثرت بين نوح وموسى عليهما السلام ، وقد قال تعالى : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ( 16 : 36 ) وقال لخاتم رسله : منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ( 40 : 78 ) وقد بينا حكمة تخصيص من ذكر في هذه السورة منهم بالذكر ، وكذا من ذكر في سورة الأنعام وغيرها .
والمعنى : ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل موسى بآياتنا التي تدل على صدقه فيما يبلغه عنا إلى فرعون وملئه ، أما " فرعون " فهو لقب ملوك مصر القدماء ، كلقب " قيصر " لملوك الروم ، و " كسرى " لملوك الفرس الأولين ، و " الشاه " لملوك الإيرانيين في هذا العصر ، وكانوا يطلقون على فرعون لقب الملك أيضا ، واختلف في اشتقاق كلمة فرعون ومعناه ، وفي اسم فرعون موسى وزمنه ، وليس في الآثار المصرية ما يبين هذا ، وأما ملؤه فهم أشراف قومه ورجال دولته ، ولم يقل إلى فرعون وقومه ؛ لأن الملك ورجال الدولة هم الذين كانوا مستعبدين لبني إسرائيل وبيدهم أمرهم ، وليس لسائر المصريين من الأمر شيء ، ولأنهم كانوا [ ص: 36 ] مستعبدين أيضا ، ولكن الظلم على بني إسرائيل الغرباء كان أشد ، وإنما موسى ؛ لإنقاذ قومه بني إسرائيل من فرعون ورجال دولته ، وإقامة دين الله تعالى بهم في بلاد أجدادهم ، ولو آمن بعث الله تعالى فرعون وملؤه لآمن سائر قومهم ؛ لأنهم كانوا تبعا لهم بل كان هذا شأن جميع الأقوام مع ملوكهم المستبدين الجائرين ، وقد علم الله تعالى أن فرعون وملأه لا يؤمنون بموسى ، وأن قومه تبع له لا اختيار لهم ، وأكثرهم مقلدون ، ولذلك قتل السحرة لما آمنوا بموسى ، وإنما آمنوا ؛ لأنهم كانوا علماء ، مستقلي العقل ، أصحاب فهم ورأي ، وكان السحر من علومهم وفنونهم الصناعية التي تتلقى بالتعليم ، وليس كالآيات التي جاء بها موسى فإنها من خوارق العادات التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى .
وقد أقام الله تعالى موسى على فرعون وملئه الحجة بآيات فظلموا بها أي : فظلموا أنفسهم وقومهم بالكفر بها كبرا وجحودا ، فكان عليهم إثم ذلك ، وإثم قومهم الذين حرموا من الإيمان باتباعهم لهم ، كما كان يكون لهم مثل أجورهم لو آمنوا بالتبع لهم ، وجملة القول : أن موسى عليه السلام كان مرسلا إلى قومه بني إسرائيل بالذات ، وإلى فرعون وملئه بالتبع ، ولك أن تقول : إن الإرسال إلى بني إسرائيل مقصد ، وإلى فرعون وملئه وسيلة ، وقد عدي الظلم في الجملة بالباء لتضمينه معنى الكفر فصار جامعا للمعنيين ، ولا يصح تفسيره بأحدهما إذ لو أريد أحدهما لعبر به ، ولم يكن للتضمين فائدة ، وقيل : إن الباء في قوله : فظلموا بها للسببية ؛ أي : فظلموا أنفسهم وقومهم ؛ بسبب هذه الآيات ظلما جديدا ، وهو ما ترتب على الجحود من العذاب بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ثم بالغرق كما سيجيء في محله ، والأول أظهر وأبلغ ، على أنه لا تنافي بينهما في المعنى .
فانظر كيف كان عاقبة المفسدين أي : فانظر أيها الرسول ، أو أيها السامع ، والتالي بعين العقل والفكر ، كيف كان بالظلم واستعباد البشر حين جحدوا آيات الله ، وظلموا بها عملا بمقتضى فسادهم ، وهذا تشويق لتوجيه النظر لما سيقصه تعالى من عاقبة أمرهم إذ نصر عبده ورسوله عاقبة فرعون وملئه المفسدين في الأرض موسى عليهم ، وهو فرد من شعب مستضعف مستعبد لهم ، وهم أعظم أهل الأرض دولة وصولة وقوة ، نصره عليهم أولا بإبطال سحرهم ، وإقناع علمائهم وسحرتهم بصحة رسالته ، وكون آياته من الله تعالى ، ثم نصره بإرسال أنواع العذاب على البلاد ثم بإنقاذ قومه وإغراق فرعون ومن اتبعه من ملئه وجنوده ، وهذه عبرة ظاهرة ، وحجة قائمة مدة الدهر ، على القائلين إنما الغلب للقوة المادية على الحق ، ولا سيما المغرورين بعظمة دول أوربة الظالمة لمن استضعفتهم من أهل الشرق ، وعلى أولئك الباغين بالأولى ، فأولى لهم أولى ، ثم أولى لهم أولى .