الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين قلنا : إن القوم لم يتربوا بالحسنات ولا بالسيئات ، ولم يذعنوا لما أيد الله به تعالى موسى من الآيات ، بل أصروا بعد إيمان كبار السحرة على عد آيتي موسى من السحر وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين [ ص: 78 ] ( مهما ) اسم شرط يدل على العموم ، والمعنى : أنك إن تجئنا بكل نوع من أنواع الآيات التي تستدل بها على أحقية دعوتك ؛ لأجل أن تسحرنا بها ؛ أي : تصرفنا بها - بدقة ولطف في التأثير - عما نحن عليه من ديننا ، ومن تسخيرنا لقومك في خدمتنا ، وضرب اللبن لمبانينا - فما نحن لك بمصدقين ، ولا لرسالتك بمتبعين .

                          فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين أي : فأنزلنا عليهم هذه المصائب والنكبات ، حال كونها آيات بينات على صدق رسالة عبدنا موسى بأن توعدهم بها قبل وقوع كل واحدة منها تفصيلا لا إجمالا ؛ لتكون دلالتها على صدقه واضحة لا تحتمل التأويل بأنها وقعت بأسباب لها لا دخل لرسالته فيها - فاستكبروا عن الإيمان به استكبارا ، مع اعتقاد صحة رسالته ، وصدق دعوته باطنا ، وكانوا قوما راسخين في الإجرام والذنوب مصرين عليها فلا يهون عليهم تركها .

                          جاء في سورة الإسراء - أو بني إسرائيل - أن الله تعالى أعطى موسى تسع آيات بينات ، وقد عد هنا منها خمسا ، وهي مذكورة في التوراة على غير هذا الترتيب ، وهو غير مراد ، وعطف بعضها على بعض بالواو لا يقتضيه .

                          فأما الطوفان فمعناه في اللغة : ما طاف بالشيء وغشيه ، وغلب في طوفان الماء ، سواء كان من السماء أو الأرض ، وكذا كل ما ينزل من السماء بكثرة تغشى الأرض . قال ابن كثير : اختلفوا في معناه فعن ابن عباس في روايات كثيرة : الأمطار المغرقة المتلفة للزرع والثمار ، وبه قال الضحاك بن مزاحم ، وعن ابن عباس رواية أخرى : هو كثرة الموت ، وكذا قال عطاء ، وقال مجاهد : الطوفان : الماء والطاعون على كل حال ، وقال ابن جرير : حدثنا ابن هشام الرفاعي : حدثنا يحيى بن هيمان : حدثنا المنهال بن خليفة ، عن الحجاج ، عن الحكم بن مينا ، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " الطوفان الموت " وكذا رواه ابن مردويه من حديث يحيى بن هيمان به ، وهو حديث غريب . وقال ابن عباس في رواية أخرى : هو أمر من الله طاف بهم ثم قرأ : فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون ( 68 : 19 ) ا هـ .

                          أقول : أما حديث عائشة المرفوع فهو ضعيف لا يثبت بمثله قول مخالف للمتبادر من اللغة - فيحيى بن هيمان الذي انفرد به هو الكوفي العجلي كان من العباد ضعفه الإمام أحمد وقال : حدث عن الثوري بعجائب ، وقال غيره : إنه كان صدوقا لا يتعمد الكذب ، ولكنه كثير الخطأ والنسيان ، وقد أصيب بالفالج فتغير حفظه ، وهذا هو الصواب ، والمنهال بن خليفة العجلي الكوفي الذي روى عنه ؛ ضعفه ابن معين وغيرهما ، وقال البخاري : حديثه منكر . وقال ابن حبان : كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير فلا يجوز الاحتجاج به ، وهذا طعن مبين .

                          [ ص: 79 ] السبب فهو مقدم على توثيق البزار له ، وكذلك الحجاج وهو ابن أرطاة الكوفي القاضي مدلس ضعيف لا يحتج به ، وأولى الآثار بالقبول قول ابن عباس الأول الموافق المتبادر من اللغة ؛ أي : طوفان المطر ، وما عدا ذلك فمن الإسرائيليات ، وأولاها بالقبول ما لا يخالف القرآن من أسفار التوراة نفسها ، وهو ما ننقله عنها : جاء في الفصل التاسع من سفر الخروج : ( 13 ) ثم قال الرب لموسى : بكر في الغداة ، وقف بين يدي فرعون ، وقل له : " كذا قال الرب إله العبرانيين أطلق شعبي ليعبدوني ( 14 ) فإني في هذه المرة منزل جميع ضرباتي على قلبك ، وعلى عبيدك وشعبك ؛ لكي تعلم أنه ليس مثلي في جميع الأرض ، وأنا ( 15 ) الآن أمد يدي وأضربك أنت وشعبك بالوباء فتضمحل من الأرض ( 16 ) غير أني لهذا أبقيك ؛ لكي أريك قوتي ؛ ولكي يخبر باسمي في جميع الأرض ، ( 17 ) وأنت لم تزل مقاوما لشعبي ( 18 ) ها أنا ( ؟ ) ممطر في مثل هذا الوقت من غد بردا عظيما جدا لم يكن مثله في مصر منذ يوم أسست إلى الآن " ثم ذكر وقوع البرد مع نار من السماء ، ووصف عظمته وشموله لجميع بلاد مصر ، وأن فرعون طلب موسى وهارون ، واعترف لهما بخطئه ، وطلب منهما أن يشفعا إلى الرب ليكف هذه النكبة عن مصر ، ووعدهما بإطلاق بني إسرائيل . وقال في ختام ذلك : ( 33 ) فخرج موسى من المدينة من لدن فرعون ، وبسط يديه إلى الرب فكفت الرعود والبرد ، ولم يعد المطر يهطل على الأرض " ا هـ ، ولم يذكر المطر عند الوعيد ، بل ذكر هنا عند كف النكبة .

                          وأما الجراد فهو معروف ، وقد ذكر في التوراة بعد الطوفان ، ففيها بعد ما تقدم أن فرعون قسا قلبه فلم يطلق بني إسرائيل ، فأخبر الرب موسى - كما في الفصل العاشر - " بأنه قسا قلبه وقلوب عبيده ليريهم آياته ، ولكي يقص موسى على ابنه وابن ابنه ( كذا ) ما فعل بالمصريين ، وأمره بأن ينذره بإرسال الجراد عليهم فيأكل ما سلم من النبات والشجر فلم يحسه البرد ، ويملأ بيوته وبيوت عبيده ، وسائر بيوت المصريين ففعل - فرضي فرعون أن يذهب الرجال من بني إسرائيل ؛ ليعبدوا ربهم دون النساء والأولاد والمواشي ، فمد موسى عصاه بأمر الرب [ ص: 80 ] على أرض مصر ( 15 ) فأرسل الرب ريحا شرقية ساقت الجراد على أرض مصر فغطى جميع وجه الأرض حتى أظلمت الأرض ، وأكل جميع عشبها ، وجميع ما تركه البرد من ثمر الشجر حتى لم يبق شيء من الخضرة في الشجر ، ولا في عشب الصحراء في جميع أرض مصر " وفيه أن فرعون استدعى موسى وهارون ، واعترف لهما بخطئه ، وطلب منهما الصفح والشفاعة إلى الرب إلههما أن يرفع عنه هذه التهلكة ففعلا ، فأرسل الله ريحا غريبة فحملت الجراد كله فألقته في بحر القلزم ، وأما القمل - بضم القاف وتشديد الميم المفتوحة - فعن ابن عباس : هو السوس الذي يخرج من الحنطة ، وعنه أنه الدبى ، وهو الجراد الصغار الذي لا أجنحة له ، وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة ، وعن الحسن وسعيد بن جبير أنه دواب سود صغار ، وعن ابن جرير أنها دابة تشبه القمل تأكل الإبل ، ونقل عن بعض علماء اللغة البصريين أن القمل عند العرب الحمنان واحدتها حمنانة ، وهي صغار القردان - ذكر هذا كله ابن كثير ، وجزم الراغب بأن القمل صغار الذباب ، وهو موافق لما في التوراة ، ففيها أن البعوض والذبان كان من الضربات العشر التي ضرب الرب بها فرعون وقومه ؛ ليرسلوا بني إسرائيل مع موسى ، ففي الفصل الثامن من سفر الخروج : أن موسى أنذر فرعون أن الذبان سيدخل بيوته وبيوت عبيده وسائر قومه فيفسدها ، ولا يدخل في بيوت بني إسرائيل المقيمين في أرض جاسان ، وأن ذلك وقع ، وفسدت الأرض من تأثير الذبان .

                          وأما الضفادع فهي المعروفة لا خلاف فيها ، وفي أول الفصل الثامن من سفر الخروج " ( 1 ) وقال الرب لموسى ادخل على فرعون وقل له : كذا قال الرب أطلق شعبي ؛ ليعبدوني ( 2 ) وإن أبيت أن تطلقهم فها أنا ( ذا ) ضارب جميع تخومك بالضفادع ( 3 ) فيفيض النهر ضفادع فتصعد وتنتشر في بيتك ، وفي مخدع فراشك ، وعلى سريرك ، وفي بيوت عبيدك وشعبك ، وفي تنانيرك ومعاجنك " إلخ . وكذلك كان ، ولكن فيها أن السحرة فعلوا مثل ذلك ، وأصعدوا الضفادع ، وأن فرعون طلب من موسى أن يشفع له عند ربه برفع الضفادع فأجابه إلى ذلك قال : ( 13 ) ففعل الرب كما قال موسى ، وماتت الضفادع من البيوت ( ؟ ) والأقبية والحقول ( 14 ) فجمعوها أكواما ، وأنتنت الأرض منها " .

                          وأما الدم ، ففسره زيد بن أسلم بالرعاف ، وأكثر أهل التفسير المأثور أنه دم كان في مياه المصريين ، وهو موافق لما جاء في التوراة ، وهو فيها أول الضربات العشر التي أنزلها الله على فرعون وقومه بعد انقلاب العصا ثعبانا . ففي الفصل السابع من سفر الخروج " أن الرب أمر موسى أن ينذر فرعون ذلك ففعل ( 19 ) ثم قال الرب لموسى قل لهارون : خذ عصاك ، ومد يدك على مياه المصريين وأنهارهم وخلجهم ومناقعهم وسائر مجامع مياههم ، فتصير دما ، ويكون دما في جميع أرض مصر ، وفي الخشب وفي الحجارة " وفيه أن موسى وهارون فعلا ذلك ، وأن سمك [ ص: 81 ] النهر مات ، وأنتن النهر فلم يستطع المصريون أن يشربوا منه ، وفيه أن سحرة مصر فعلوا مثل ذلك ( ؟ ؟ ) وأن الدم دام سبعة أيام .

                          هذه الخمس جملة ما ذكره القرآن من الآيات التسع التي أيد بها عبده ورسوله موسى عليه السلام ، وليس فيها شيء من المبالغات التي في التوراة فلا هو ينفيها ولا يؤيدها ، ومقتضى أصول الإسلام الوقف فيها إلا ما دل دليل من القرآن على نفيه كما تقدم ، وفيها أن من تلك الآيات أو الضربات ( البعوض ) وذلك أن هارون ضرب بأمر الرب تراب الأرض " فكان البعوض على الناس والبهائم ، وكل تراب الأرض ( ؟ ) صار بعوضا في جميع أرض مصر " كذا في ( 8 : 17 خر ) وفيها أن السحرة فعلوا مثل ذلك ! ( ومنها الوباء ) وقع على دواب المصريين وأنعامهم فماتت كلها من دون مواشي الإسرائيليين ، فإنه لم يمت منها شيء ( ومنها البثور والقروح المنتفخة ) أصابت الناس والبهائم - ومن أين جاءت البهائم بعد أن ماتت بأسرها ؟ - ( ومنها الظلام ) غشى جميع المصريين ثلاثة أيام كان الإسرائيليون فيها يتمتعون بالنور وحدهم ، ( ومنها إماتة جميع أبكار الناس والبهائم ) وهي الضربة العاشرة ففيها " وقال موسى : كذا قال الرب إني نحو نصف الليل أجتاز في وسط مصر فيموت كل بكر في أرض مصر من بكر فرعون الجالس على عرشه إلى بكر الأمة التي وراء الرحى ، وجميع أبكار البهائم ( من أين جاءت بعد أن ماتت منذ أيام ؟ ) ويكون صراخ عظيم في جميع أرض مصر لم يكن مثله ( 11 : 4 - 6 خر ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية