استطراد فقهي
حظر الشرع الإسلامي ؛ لأنها إما شرك أو ذريعة إليه ، أو تشبه بأهله ، وهي على هذا الترتيب في التدلي ، فأغلظها أولها ، وأخفها ثالثها . وللتشبه درجات في الحظر أشدها ما كان في أمور الدين فإنه قد يكون كفرا ، وأهونها ما كان في العادات وأمور الدنيا [ ص: 93 ] فنجتنب منه ما لنا غنى عنه ، وما كان نافعا غير ضار بنفسه لا نأخذه بقصد التشبه فقط ؛ لأنه لا يكون إلا من تعظيم المتشبه لغير أهل ملته ، وهو يتضمن أو يستلزم احتقارها أو احتقارهم والشعور بأنهم دونهم ، وأما اقتباس العلم والحكمة والفنون والصناعات النافعة ؛ لأجل منفعتها بقدرها فليس من التشبه ، ولا من تفضيل المقتبس منهم على أهل ملته ؛ لأن هذه الأمور ليست من أمور الدين ، ولا اقتبست لأجل التعظيم بل لفائدتها ، وقد تكون هذه الفائدة مما تعتز به ملة المقتبس المستفيد وأهلها ، ومن ذلك أخذ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمل الخندق عن الفرس ؛ إذ أخبره نصب التماثيل سلمان ـ رضي الله عنه ـ عنهم بذلك ، وقد يكون هذا الأخذ واجبا شرعا ، ومنه أخذنا لفنون الحرب وصناعتها وآلاتها عن الإفرنج ؛ إذ أتقنوها قبلنا ، فهو فرض كفاية بلا نزاع ، فالأمة الحية تقتبس كل شيء نافع يغذي حياتها ، ويزيدها قوة وعزة ، وتتقي في ذلك كل ما فيه ضعف لها في مقوماتها أو مشخصاتها ، ولا سيما إذا كان فيه تفضيل لخصومها أو غيرهم عليها ، وقد فطن اليابان لهذه القاعدة فحافظوا على شئونهم الملية والقومية عند اقتباسهم لعلوم الفرنجة وفنونها ، فصاروا مثلهم في ثلث قرن ، وغفل عنه الترك والمصريون فأضاعوا من ملكهم .
وليس في نصب التماثيل فائدة ومنفعة ذات بال لا تحصل بغيرها تبيح للمسلمين تقليد الوثنيين والنصارى فيها ، ولو في جعلها لغير رجال الدين بعدا عن شبهة عبادتها ، ومن ذا الذي يأمن هذا وقد عبدت قبور الأولياء ، وأئمة آل البيت ، كما عبد غلاة الشيعة من الباطنية أشخاصا منهم أحياء وأمواتا ، ونرى الشيعة المعتدلين الذين استباحوا نصب التماثيل غير الدينية قد اتخذ بعضهم في هذه الأيام تمثالا لأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه في بلاد إيران كما نقلت صحف الأخبار عنهم ، وأما الصور فلها فوائد في الحرب ، وحفظ الأمن ، وتحقيق معاني اللغة ، وكثير من العلوم ، ولا سيما الطب والتشريح . . . فلا يحظر منها ما ليس عبادة ، ولا تشبها بعبدة الأصنام بدليل ما ثبت في السنة الصحيحة من عائشة ) في حجرتها ؛ إذ كان على هيئة الصور والتماثيل المعبودة ، فلما جعلت منه وسادة كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستعملها وفيها الصور ؛ إذ كان الاتكاء والنوم عليها امتهانا لا تعظيما ، ولا يشبه التعظيم الوثني . وقد حققنا هذا البحث ببيان ما ورد فيه من الأحاديث والآثار وأقوال العلماء في فتاوى المنار مرارا . أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهتك القرام ( الستار ) الذي نصبته (