بعد هذا التمهيد نقول : إن مسألة الكلام الإلهي كمسألة الرؤية فيما اختلف فيه من تأويل وتفويض ، اجتنابا من قوم للتعطيل ، ومن آخرين للتشبيه ، وإنما الفرق بينهما أن - صريح في القرآن المجيد في آيات متعددة لا تعارض بينها ، وأما إثبات الكلام والتكليم لله - تعالى - فربما قيل بادي الرأي إن آيات النفي فيها أصرح من آيات الإثبات كقوله - تعالى - : رؤية الرب - تعالى لن تراني وقوله - تعالى - : لا تدركه الأبصار ( 6 : 103 ) فهما أصرح دلالة على النفي من دلالة قوله - تعالى - : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ( 75 : 22 ، 23 ) على الإثبات ، فإن استعمال النظر بمعنى الانتظار كثير في القرآن وكلام العرب ، كقوله : ما ينظرون إلا صيحة واحدة ( 36 : 49 ) و هل ينظرون إلا تأويله ( 7 : 53 ) و هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ( 2 : 210 ) وثبت أنه استعمل بهذا المعنى متعديا بـ " إلى " ولذلك جعل بعضهم وجه الدلالة فيه على المعنى الآخر - وهو توجيه الباصرة إلى ما تراد رؤيته - أنه أسند إلى الوجوه وليس فيها ما يصحح إسناد النظر إليها إلا العيون البصارة ، وهو في الدقة كما ترى ، ولذلك اختلف في فهمها العلماء قبل هذه المذاهب ، فقد روى ، عن عبد بن حميد مجاهد تفسير ( ناظرة ) بقوله : تنتظر الثواب . قال الحافظ ابن حجر : سنده إلى مجاهد صحيح ، والجمهور يرون فهم مجاهد غير صحيح ، ولكن المعتزلة والخوارج والشيعة يرونه صحيحا ، أو ليس قطعي الدلالة بحيث يعد حجة على جميع المكلفين ، ويمتنع جعل تأويله عذرا للمخالفين ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعذر أصحابه في اختلاف فهمهم للنصوص ، ويقرهم على ما كان للاجتهاد فيه وجه وجيه ، كأخذ الآخرين بفحواه وهو عدم التخلف ، فصلى هؤلاء في الطريق ، وأدركوا معهبني قريظة في الموعد ، ولم يصل أولئك العصر إلا فيها ، وكما فهم بعضهم تحريم الخمر والميسر من آية البقرة التي رجحت إثمهما على منافعهما فتركوهما ، ولم يتركهما من لم يفهم ذلك وهم الأكثرون إلا بعد نزول النص القطعي باجتنابهما .
[ ص: 118 ] فإذا محصنا أسباب الخلاف من جهة النصوص وحدها وجدنا لكل من النفاة للرؤية والمثبتين لها ما يصح أن يكون له عذرا عند الآخر بمنع جريمة التفرق في الدين ، وجعل أهله أحزابا وشيعا متعادية غير مبالية بما ورد فيه من الوعيد الذي كاد يجعله كالكفر ما دام كل منهم يعلم أن الآخر يؤمن بأن جميع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الدين حق ، وأن الخلاف محصور في اختلاف الفهم .
وما كفر بعض علماء السلف بعض منكري الرؤية وغلاة التأويل لصفات الله - تعالى - وغيرها من النصوص إلا لاعتقادهم أنهم زنادقة لبسوا لباس الإسلام للإفساد ، وبث دعوة الإلحاد ، والتجرئة على رد نصوص القرآن والسنن التي تلقاها الصدر الأول بالقبول ، أو تحريفها بالتأويل عما فهموه أو عما ثبت عندهم بالعمل " إذ كانوا قد علموا أن بعض اليهود كعبد الله بن سبأ وبعض وبشر المريسي المجوس ، ومن سلائلهم قد بثوا في المسلمين دعوة الكفر أو البدع الداعية إلى النفاق ، أو المفضية إلى الشقاق ، فالإمام جهم بن صفوان أحمد كفر منكري الرؤية من هؤلاء لاعتقاده فيما نرى أنها صادرة عن زندقة ، لا لأن هذا الإنكار نفسه زندقة ، بحيث يرتد المسلم المؤمن بالنصوص كلها بقلبه ولسانه وعمله إذا فهم أن آيات نفي الرؤية هو الأصل المحكم الذي يرد إليه ما ورد من الآيات والأحاديث في إثباتها ؛ إذ الأول هو الموافق للعقل والنقل وهو التنزيه ، دون الآخر المستلزم عنده للتشبيه الواجب تأويله للجمع بين النصوص لا لرد شيء منها .
وأهل السنة يعذرون المتأول وكذا الجاحد لما ليس مجمعا عليه معلوما من الدين بالضرورة فلا يكفرونه بمخالفته للظواهر ، ولا يعدون البدعة من هذا القبيل مسقطة للعدالة في الرواية قالوا : إلا إذا كان صاحبها داعية ؛ لأن الدعوة إلى أمر ديني لم يؤثر عن الصدر الأول إحداث لفتنة وتفريق بين الموحدين كمسألة خلق القرآن ، فما القول في الدعوة إلى ما أثر عن الصدر الأول خلافه كالرؤية ؟ ثم ما القول في الدعوة إلى مخالفة النصوص القطعية التي لا تحتمل التأويل لغة ولا شرعا ، ومخالفة ما أجمع عليه المسلمون ، وهو معلوم من الدين بالضرورة كدعاوى الباطنية المعلومة ، ومثلها المسيحية القاديانية الهندية التي يلقب أهلها بالأحمدية ، أن رئيس نحلتهم ( دعوى ميرزا غلام أحمد القادياني ) هو المسيح المبشر بعودته إلى الدنيا في بعض الأحاديث ، وأنه كان يوحى إليه ، ونسخت فرضية الجهاد على لسانه ، فصار من الواجب على المسلمين عندهم أن يستسلموا للأجانب المستعبدين لهم ، السالبين لاستقلالهم المبطلين لشريعتهم ، ولا يجوز لشعب إسلامي عندهم أن يدافع بالقتال عن ملته ووطنه ، وإنما جعلالقادياني هذا من أصول دينه خدمة للإنكليز ، ولا يزال الباب مفتوحا عند أتباعه لمثل هذا بزعمهم أن وحي النبوة متصل في خلفائه وأتباعه ، فالقول بهذا خروج من ملة الإسلام [ ص: 119 ] لا تنفع معه صلاة ولا زكاة ولا حج ولا صيام ، وما أفضى إلى هذا الضلال المبين إلا التوسع في باب التأويل :