فإن قيل : إن كلا من مثبتي ونفاتها قد ادعى بعضهم أن النصوص التي يستدل بها على مذهبه قطعية ، حتى إن النافي جعل نصوص الإثبات دالة على النفي ، والمثبت جعل نصوص النفي دالة على الإثبات ، كقول بعض النفاة إن قوله - تعالى - رؤية الرب - تعالى - في الآخرة إلى ربها ناظرة يفيد الحصر بتقديم الجار والمجرور على المتعلق أي تنظر إلى ربها وحده دون سواه ، كقوله ألا إلى الله تصير الأمور ( 42 : 53 ) وأن إلى ربك المنتهى ( 53 : 42 ) أي : لا إلى سواه ، ولما كان عدم نظرهم إلى غير ربها ممنوع عقلا ونقلا وجب حمل النظر على معناه الآخر وهو الانتظار ، بمعنى أنها لا تنتظر الخير من غيره ( راجع الكشاف ) .
ويقابل هذا من بعض أهل الإثبات الاستدلال بقوله - تعالى - : لا تدركه الأبصار ( 6 : 103 ) على رؤيته - تعالى - من حيث إن الإدراك معناه الإحاطة ، وإدراك الأبصار إنما إحاطتها بالمرئي ، فنفي الإدراك يستلزم إثبات رؤية الإدراك فيها ، فكأنه قال : لا تدركه الأبصار التي تراه ، وهو يدرك الأبصار التي يراها ، ويحيط بها . ونظيره قوله - تعالى - : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ( 20 : 110 ) أي : هو يحيط بهم علما ؛ لأنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم والله من ورائهم محيط ( 85 : 20 ) وهم لا يحيطون به علما ؛ لأن إحاطة المحاط به بالمحيط محال ، وهو يستلزم إثبات أصل العلم به لا نفيه ، كآية نفي إدراك الأبصار ، وكل منها جار على قاعدة معروفة في اللغة ، وهي أن نفي المقيد يقصد به إلى القيد ، وأن نفي وصف خاص لمعنى عام يستلزم إثبات ذلك العام ، كقولك : فلان لا يشبع - فإنه إثبات للأكل ونفي للشبع .
هذا توجيه لهذا الاستدلال فتح الله - تعالى - به علينا ، وقد رأينا للشيخ تقي الدين بن تيمية توجيها آخر ، ملخصه : أن الله - تعالى - ذكر هذه الآية في مقام التمدح ، وإنما يكون المدح بالأوصاف الثبوتية لا بالعدم المحض ، وما تمدح - تعالى - بأمر سلبي أو عدمي إلا إذا تضمن معنى ثبوتيا ، كنفي السنة والنوم المتضمن لكمال القيومية ، ونفي الموت المتضمن لكمال الحياة ، ونفي الشريك والظهير المتضمن لكمال الربوبية والإلهية ، ونفي الشفاعة عنده إلا بإذنه المتضمن لكمال توحيده وغناه عن خلقه ، ونفي المثل المتضمن لكمال ذاته وصفاته . . . قال : فكذلك نفي إدراك الأبصار ليس معناه أنه لا يرى بحال ؛ لأن هذا يشاركه فيه العدم المحض ، والرب - جل جلاله - يتعالى أن يتمدح بما يشاركه فيه العدم المحض ، فالمعنى إذن أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به - كنظائره - فقوله : لا تدركه الأبصار يدل على غاية عظمته ، وأنه أكبر [ ص: 120 ] من كل شيء ، وأنه لعظمته لا يدرك بحيث يحاط به ، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء وهو قدر زائد على الرؤية . ثم استدل على هذا المعنى لغة بما نستغني عن ذكره بما أوردناه في تفسير هذه الآية من سورة الأنعام ، فقد حققنا المعنى اللغوي للإدراك ، وألممنا بمسألة الخلاف في الرؤية ، ووعدنا بتفصيل الكلام فيها عند تفسير آية الأعراف التي نحن في صدد تفسيرها الآن .
( وجوابنا ) عما ذكر أن هذه الدقائق اللغوية مما يخفى على أكثر علماء اللغة ، وكذا أهل السليقة أيضا ، ولذلك اختلفوا في معناها ، فكيف يقال في شيء منها :إنه نص قطعي لا يحتمل التأويل ؟
وغرضنا من هذا التطويل ببيان حجج كل فريق إقناع أهل البصيرة في الدين والإخلاص في جمع كلمة المسلمين ، من المستقلين في الفهم والراسخين في العلم حتى المولودين في مهود المذاهب ، والناشئين في حجور الأحزاب والشيع ، أن يجتهدوا في التوفيق والتأليف ، ومنع جعل هذه المسألة وأمثالها من أسباب التفريق ، فضلا عن جعلها من أسباب التكفير أو التفسيق ، وليعذرنا من يرانا نخالف فهمه أو مذهبه في ترجيحنا للمأثور عن جمهور السلف الصالح فيها ، وفي جميع أمور الدين ثم ليعذرنا إخواننا السلفيون في تقريب مذهب السلف إلى العقول التي لا يرجى أن تهتدي به وتأخذه بالقبول إلا بإثباته بما ألفت من طرق الاستدلال وإيضاحه بما يقربه إليها من ضرب الأمثال ، وقد سبق لنا تحقيق هذين الأمرين معا بفتوى نشرت في ص 282 - 288 من المجلد التاسع عشر من المنار ، فيحسن أن تضاف إلى هذا البحث ، وأن يلخص الموضوع في قضايا معدودة تكون أضبط له وأجمع لما يحتاج إليه المسلمون منه في دنياهم وآخرتهم ، وإن كان فيه تكرار فإن التكرار في إيضاح الحقائق ضروري .
وإننا نقدم بين يدي ذلك قضايا جامعة في المسألة ، وما ورد فيها من الأحاديث الصحيحة وأقوال السلف والخلف فيها .