وأما الثاني أعني فخمسة : ( الشبهة الأولى ) جاء في هذه العبارة تفسير الفارقليط بروح القدس ، وروح الحق ، وهما عباراتان عن الأقنوم الثالث ، فكيف يصح أن يراد بالفارقليط الشبهات التي توردها علماء بروتستنت محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ أقول في الجواب : إن صاحب ميزان الحق يدعي في تأليفاته كون ألفاظ روح الله ، وروح القدس ، وروح الحق ، وروح الصدق ، وروح فم الله ، بمعنى واحد . قال في الفصل الأول من الباب الثاني من مفتاح الأسرار في الصفحة 53 من النسخة الفارسية المطبوعة سنة 1850 : إن لفظ روح الله ، ولفظ روح القدس في التوراة والإنجيل بمعنى واحد انتهى . فادعى أن هذين اللفظين يستعملان بمعنى واحد في العهدين - وقال في حل الإشكال ، في جواب كشف الأستار : من له إلمام ما بالتوراة والإنجيل فهو يعرف أن ألفاظ روح القدس وروح الحق وروح فم الله وغيرها بمعنى روح الله ، فلذلك ما رأيت إثباته ضروريا انتهى .
[ ص: 245 ] فإذا عرفت هذا القول فنحن نقطع النظر عن صحة ادعائه وعدم صحته هاهنا ، ونسلم ترادف هذه الألفاظ على زعمه ، لكنا ننكر أن استعمالها في كل موضع من مواضع العهدين بمعنى الأقنوم الثالث ، ونقول قولا مطابقا لقوله : من له شعور ما يكتب العهدين يعرف أن هذه الألفاظ تستعمل في غير الأقنوم الثالث كثيرا ، ففي الآية الرابعة عشرة من الباب السابع والثلاثين من كتاب حزقيال قول الله - تعالى - في خطاب ألوف من الناس الذين أحياهم بمعجزة حزقيال - عليه السلام - هكذا : ( فأجعل فيكم روحي ) ففي هذا القول روح الله بمعنى للنفس الناطقة الإنسانية لا بمعنى الأقنوم الثالث الذي هو عين الله على زعمهم - وفي الباب الرابع من الرسالة الأولى ليوحنا ترجمة عربية سنة 1760 هكذا ( 1 أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله ؟ ؛ لأن الأنبياء الكذبة كثيرون قد خرجوا إلى العالم 2 بهذا تعرفون روح الله : كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله 6 نحن من الله فمن يعرف الله يسمع لنا ، ومن ليس من الله لا يسمع لنا ، من هذا تعرف روح الحق وروح الضلال ( وهذه الجملة الواقعة في الآية الثانية ) بهذا تعرفون روح الله ( وفي التراجم العربية الأخر سنة 1821 وسنة 1831 وسنة 1844 هكذا ( بهذا يعرف روح الله ) وفي ترجمة سنة 1825 ( فإنكم تميزون روح الله ) ولفظ روح الله في الآية الثانية ، ولفظ روح في الآية السادسة بمعنى الواعظ الحق لا بمعنى الأقنوم الثالث ، ولذلك ترجم مترجم ترجمة أردو المطبوعة سنة 1845 لفظ كل روح بكل واعظ ، ولفظ الأرواح بالواعظين في الآية الأولى ، ولفظ روح في الآية الثانية بالواعظ من جانب الله . ولفظ روح الحق في الآية السادسة بالواعظ الصادق . وترجم لفظ روح الضلال بالواعظ المضل ، وليس المراد بروح الله ، وروح الحق الأقنوم الثالث الذي هو عين الله على زعمهم ، وهو ظاهر . فتفسير الفارقليط بروح القدس وروح القدس وروح الحق لا يضرنا ؛ لأنهما بمعنى الواعظ الحق ، كما أن لفظ روح الحق روح الله بهذا المعنى في الرسالة الأولى ليوحنا ، فيصح إطلاقهما على محمد - صلى الله عليه وسلم - بلا ريب .
( الشبهة الثانية ) إن المخاطبين بضمير " كم " الحواريون ، فلا بد أن يظهر الفارقليط في عهدهم ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - لم يظهر في عهدهم .
( أقول ) : هذا أيضا ليس بشيء ؛ لأن منشأه أن الحاضرين وقت الخطاب لا بد أن يكونوا مرادين بضمير الخطاب ، وهو ليس بضروري في كل موضع . ألا ترى أن قول عيسى - عليه السلام - في الآية الرابعة والستين من الباب السادس والعشرين من إنجيل متى في خطاب رؤساء الكهنة والشيوخ والمجمع هكذا . ( وأيضا أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسا عن يمين القوة وآتيا على سحاب السماء ) وهؤلاء المخاطبون قد ماتوا : [ ص: 246 ] ومضت على موتهم مدة هي أزيد من ألف وثمانمائة سنة ، وما رأوه آتيا على سحاب السماء ، فكما أن المراد بالمخاطبين هاهنا الموجودون من قومهم وقت نزوله من السماء ، فكذلك فيما نحن فيه ، المراد : الذين يوجدون وقت ظهور الفارقليط .
( الشبهة الثالثة ) أنه وقع في حق الفارقليط أن العالم لا يراه ولا يعرفه وأنتم تعرفونه ، وهو لا يصدق على محمد - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن الناس رأوه وعرفوه .
أقول : هذا أيضا ليس بشيء ، وهم أحوج الناس تأويلا في هذا القول بالنسبة إلينا ؛ لأن روح القدس عين الله عندهم ، والعالم يعرف الله أكثر من معرفة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فلا بد أن نقول : إن المراد بالمعرفة المعرفة الحقيقية الكاملة . ففي صورة التأويل اشتباه في صدق هذا القول على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ويكون المقصود أن العالم لا يعرفه معرفة حقيقية كاملة . وأنتم تعرفونه معرفة حقيقية كاملة . والمراد بالرؤية المعرفة ، ولذا لم يعد عيسى - عليه السلام - لفظ الرؤية بعد لفظ أنتم ، بل قال : وأنتم تعرفونه ، ولو حملنا الرؤية على الرؤية البصرية يكون نفي الرؤية محمولا على ما هو المراد في قول الإنجيلي الأول في الباب الثالث عشر من إنجيله . وأنقل عبارته عن الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816 وسنة 1825 ( 13 فلذلك أضرب لكم الأمثال ؛ لأنهم ينظرون ولا يبصرون ، ويسمعون ولا يستمعون ولا يفهمون 14 وقد كمل فيهم تنبؤ أشعيا حيث قال : إنكم تستمعون سمعا ولا تفهمون ، وتنظرون نظرا ولا تبصرون فلا إشكال أيضا .
وأمثال هذين الأمرين وإن كانت معاني مجازية لكنها بمنزلة الحقيقة العرفية ، ووقعت في كلام عيسى - عليه السلام - كثيرا ، ففي الآية السابعة والعشرين من الباب الحادي عشر من إنجيل متى هكذا ( وليس أحد يعرف الابن إلا الأب ، ولا أحد يعرف الأب إلا الابن ، ومن أراد الابن أن يعلن له ( وفي الآية الثامنة والعشرين من الباب السابع من إنجيل يوحنا هكذا ( الذي أرسلني حق الذي أنتم لستم تعرفونه ) وفي الباب الثامن من إنجيل يوحنا هكذا ( 19 لستم تعرفونني أنا ولا أبي لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضا 55 ولستم تعرفونه أي الله إلخ ) . وفي الآية الخامسة والعشرين من الباب السابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا ( أيها الأب إن العالم لم يعرفك ، أما أنا فعرفتك ) في الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا ( 7 لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضا ، ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه 8 قال له فيلبس يا سيد أرنا الأب وكفانا 9 قال له يسوع : أنا معكم زمانا هذه مدته ، ولم تعرفني يا فيلبس الذي رآني فقد رأى الأب ، فكيف تقول أنت أرنا الأب ؟ ) فالمراد بالمعرفة في هذه الأقوال المعرفة الكاملة ، بالرؤية المعرفة . وإلا لا تصح هذه الأقوال يقينا : لأن العوام من الناس كانوا يعرفون [ ص: 247 ] عيسى - عليه السلام - فضلا عن رؤساء اليهود والكهنة والمشايخ والحواريين ، ورؤية الله بالبصر في هذا العالم ممتنعة عن أهل التثليث أيضا .
( الشبهة الرابعة ) أنه وقع في حق الفارقليط ( أنه مقيم عندكم وثابت فيكم ) ويظهر من هذا القول أن الفارقليط كان في وقت الخطاب مقيما عند الحواريين وثابتا فيهم ، فكيف يصدق على محمد - صلى الله عليه وسلم - ! .
أقول : إن هذا القول في التراجم الأخرى هكذا ففي الترجمة العربية سنة 1816 وسنة 1825 ( لأنه مستقر معكم وسيكون فيكم ) والتراجم الفارسية المطبوعة سنة 1816 وسنة 1828 وسنة 1841 وترجمة أردو المطبوعة سنة 1814 وسنة 1839 كلها مطابقة لهاتين الترجمتين ، وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1860 هكذا : ( ماكث معكم ويكون فيكم ( فظهر أن المراد بقوله " ثابت فيكم " الثبوت الاستقبالي يقينا فلا اعتراض به بوجه من الوجوه وبقي قوله " مقيم عندكم " .
فأقول : لا يصح حمل هذا القول على معنى هو مقيم عندكم الآن ؛ لأنه لا ينافي قوله : ( أنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ) وقوله ( قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون . وقوله . إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط ) وإذا أول نقول : إنه بمعنى الاستقبال كما أن القول الذي بعده بمعنى الاستقبال ، ومعناه : يكون مقيما عندكم في الاستقبال ، فلا خدشة في صدقه على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والتعبير عن الاستقبال بالحال بل بالماضي في الأمور المتيقنة كثير في العهدين - ألا ترى أن حزقيال - عليه السلام - أخبر أولا عن خروج يأجوج ومأجوج في الزمان المستقبل وإهلاكهم حين وصولهم إلى جبال إسرائيل . ثم قال في الآية الثامنة من الباب التاسع والثلاثين من كتابه هكذا ( ها هو جاء وصار يقول الرب الإله هذا هو اليوم الذي قلت عنه ) فانظروا إلى قوله ها هو جاء وصار - وهذا القول في الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1839 هكذا ( اينك رسيد وبوقوع بيوست ) فعبر عن الحال المستقبل بالماضي لكونه يقينا لا شك فيه ، وقد مضت مدة أزيد من ألفين وأربعمائة وخمسين سنة ، ولم يظهر خروجهم - وفي الآية الخامسة والعشرين من الباب الخامس من إنجيل يوحنا هكذا ( الحق أقول لكم أنه تأتي ساعة ، وهي الآن حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون ) فانظروا إلى قوله وهي الآن ، وقد مضت مدة أزيد من ألف وثمانمائة سنة ولم تجئ هذه الساعة ، وهي إلى الآن مجهولة لا يعرف أحد متى تجيء ! .
( الشبهة الخامسة ) في الباب الأول من كتاب الأعمال هكذا ( 4 وفيما هو مجتمع معهم أوصاهم ألا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الأب الذي سمعتموه مني 5 لأن يوحنا [ ص: 248 ] عمد بالماء ، وأما أنتم فستتعمدون بالروح القدس ليس هذه الأحكام بكثير ) وهذا يدل على أن الفارقليط هو الروح النازل يوم الدار ؛ لأن المراد بوعد الأب هو الفارقليط .
أقول : الادعاء بأن المراد بموعد الأب هو الفارقليط ادعاء محض ، بل هو غلط لثلاثة عشر وجها ، وقد عرفتها ، بل الحق أن الأخبار عن الفارقليط شيء والوعد بإنزال الروح عليهم مرة أخرى شيء آخر . وقد وفى الله بالوعدين ، وقد عبر عن الوعد الأول بمجيء الفارقليط ، وهاهنا بموعد الأب ، غاية الأمر أن يوحنا نقل بشارة الفارقليط ، ولم ينقلها الإنجليون الباقون - ولوقا نقل موعد نزول الروح الذي نزل يوم الدار ، ولم يقله يوحنا . ولا بأس فيه فإنهم قد يتفقون في نقل الأقوال الخسيسة ، كركوب عيسى - عليه السلام - على الحمار وقت الذهاب إلى أورشليم ، اتفق على نقله الأربعة ، وقد يتخالفون في نقل الأحوال العظيمة ، ألا ترى أن لوقا انفرد بذكر إحياء ابن الأرملة من الأموات في نايين ، وبذكر إرسال عيسى - عليه السلام - سبعين تلميذا ، وبذكر إبراء عشرة برص ، ولم يذكر هذه الحالات أحد من الإنجيليين ، مع أنها من الحالات العظيمة ، وأن يوحنا انفرد بذكر وليمة العرس في قانا الجليل ، وظهر من يسوع في معجزة تحويل الماء خمرا ، وهذه المعجزة أول معجزاته ، وسبب ظهور مجده وإيمان التلاميذ به ، ويذكر إبراء السقيم في بيت صيدا في أورشليم ، وهذه أيضا معجزة عظيمة ، والمريض كان مريضا من ثمان وثلاثين سنة ، ويذكر قصة امرأة أخذت في زنا ، ويذكر إبراء الأكمه ، وهذا أيضا من أعظم معجزاته ، وهي مصرحة بهما في الباب التاسع وبذكر إحياء العازار من بين الأموات ، ولم يذكرها أحد من الإنجليين ، مع أنها حالات عظيمة ، وهكذا حال متى ومرقص ، فإنهما انفردا بذكر بعض المعجزات والحالات التي لم يذكرهما غيرهما ، وإذا طال البحث في هذا المسلك فلنقتصر على هذا القدر من البشارات التي نقلتها عن كتبهم المعتبرة عندهم في زماننا اهـ .