( فصل في معنى ) اتباع الرسول وموضوعه ولوازمه
قوله تعالى هنا : واتبعوه أعم من قوله في الآية التي قبلها : واتبعوا النور الذي أنزل معه فتلك في اتباع القرآن خاصة ، وهذه تشمل اتباعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما شرعه من الأحكام من تلقاء نفسه على القول بأن الله تعالى أعطاه ذلك ، وأذن له به ، واتباعه في اجتهاده [ ص: 258 ] واستنباطه من القرآن إذا كان تشريعا - كتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها كالجمع بين الأختين المنصوص في القرآن - ولا يدخل فيه اتباعه فيما كان من أمور العادات كحديث : رواه كلوا الزيت وادهنوا به فإنه طيب مبارك أحمد عن وابن ماجه أبي هريرة والحاكم وصححه ورواه غيرهما بألفاظ أخرى وأسانيده ضعيفة ، وحديث إلخ رواه كلوا البلح بالتمر النسائي وابن ماجه والحاكم عن عائشة وصححوه ; فإن هذا من أمور العادات التي لا قربة فيها ولا حقوق تقتضي التشريع بخلاف حديث : رواه كلوا لحوم الأضاحي وادخروا أحمد والحاكم عن أبي سعيد وسنده صحيح ، فإن الأضاحي من النسك والأكل منها سنة فأمر المضحي به للندب ، وادخارها جائز له ، لولا الأمر به لظن تحريمه أو كراهته لعلاقة الأضاحي بالعيد فهي ضيافة الله تعالى للمؤمنين في أيام العيد ، فالتشريع إما عبادة أمرنا بالتقرب إلى الله تعالى بها وجوبا أو ندبا ، وإما مفسدة نهينا عنها اتقاء لضررها في الدين كدعاء غير الله فيما ليس من الأسباب التي يتعاون عليها الناس ، وكأكل المذبوح لغير الله وتعظيم غير الله بما شرع تعظيم الله به من الذبح له والحلف باسمه - أو لضررها في العقل أو الجسم أو المال أو العرض أو المصلحة العامة - وإما حقوق مادية أو معنوية أمرنا بأدائها إلى أهلها كالمواريث والنفقات ومعاشرة الأزواج بالمعروف ، أو أمرنا بالتزامها لضبط المعاملات كالوفاء بالعقود ، وبإدخال حكم الاستحباب وحكم كراهة التنزيه في التشريع تتسع أحكامه في أمور العادات كما يعلم مما يأتي : . وقتادة بن النعمان
ليس من التشريع الذي يجب فيه امتثال الأمر واجتناب النهي ما لا يتعلق به حق الله تعالى ، ولا لخلقه لا جلب مصلحة ولا دفع مفسدة كالعادات والصناعات والزراعة والعلوم والفنون المبنية على التجارب والبحث ، وما يرد فيها من أمر ونهي يسميه العلماء إرشادا لا تشريعا إلا ما ترتب على النهي عنه وعيد كلبس الحرير وقد ظن بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أن إنكار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبعض الأمور الدنيوية المبنية على التجارب للتشريع كتلقيح النخل فامتنعوا عنه فأشاص ( خرج ثمره شيصا أي رديئا أو يابسا ) فراجعوه في ذلك فأخبرهم أنه قال ما قال عن ظن ورأي لا عن التشريع ، وقال لهم : " " والحديث معروف في صحيح أنتم أعلم بأمر دنياكم مسلم وحكمته تنبيه الناس إلى أن مثل هذه الأمور الدنيوية والمعاشية كالزراعة والصناعة لا يتعلق بها لذاتها تشريع خاص بل هي متروكة إلى معارف الناس وتجاربهم .
وكانوا يراجعونه أيضا فيما يشتبه عليهم أهو من رأيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ واجتهاده الدنيوي أو بأمر من الله تعالى ؟ ، وإن لم يكن تشريعا كسؤاله عن الموضع الذي اختاره للنزول فيه يوم بدر ، قال له الحباب بن المنذر ـ رضي الله عنه ـ أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا متقدم عنه ولا [ ص: 259 ] متأخر ؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فلما أجابه بأنه رأي لا وحي ، وأن المعول فيه على المصلحة ومكايد الحرب أشار بغيره فوافقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وإذا اشتبه على بعض الصحابة بعض هذه المسائل فغيرهم أولى بأن يعرض لهم الاشتباه في كثير منها ، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبين لأولئك الحق فيما اشتبهوا فيه ، ومن ذا يبين ذلك من بعده ؟ ولو لم يتخذ الناس اجتهاد العلماء من بعده دينا يوجبون اتباعه لهان الأمر ، ولكن اتخاذه دينا قد كثرت به التكاليف ، ووقع المسلمون به في حرج عظيم في الأزمنة التي ضعف فيها الاتباع ، فثقلت على الطباع فصاروا يتركون ما ثقل عليهم منها ، وجرأهم ذلك على ترك المشروع القطعي الذي لا حرج ولا عسر فيه ، ثم جرهم ذلك إلى ترك بعضهم للدين كله ، ودعوة غيرهم إلى ذلك ، والجامدون من مقلدة الفقه المتشددين في إلزام الأمة التدين باجتهاد الفقهاء لا يشعرون بهذه العاقبة السوء ولا يبالون إذا أشعرهم المصلحون .
مثال ما شدد به بعضهم من ذلك صبغ الشيب بالسواد ، وهو من الأمور العادية المتعلقة بالزينة المباحة إذ لا تعبد فيه ولا حقوق لله ولا للناس ، إلا ما قد يعرض فيه وفي مثله كالزي من كون فعله أو تركه صار خاصا بالكفار ، وفعله بعض المسلمين تشبها بهم أو صار بفعله له مشابها لهم بحيث يعد منهم ، وفي ذلك ضرر معنوي وسياسي معروف عند الباحثين في سنن الاجتماع من كون المتشبه بقوم تقوى عظمتهم في نفسه من حيث تضعف فيها رابطته بقومه وأهل ملته ، وقد ورد في أخبار وآثار يدل بعضها على استحبابه عادة لا عبادة ولو بالسواد ، وفهم بعض العلماء منهما استحبابه شرعا ، وفهم آخرون من بعض آخر كراهته بالسواد بل قال المتشددون منهم بتحريمه ، فصار المقلدون لهم ينكرون على فاعله ، ويعدونه عاصيا لله تعالى ، فخالفوا هدي السلف في المسألة وفي القاعدة العامة وهي عدم الإنكار في المسائل الاجتهادية التي وقع فيها الخلاف . صبغ الشيب
فمن الأخبار في المسألة ما ورد في الصحيح أبا قحافة والد ـ رضي الله عنه ـ جاء أو أتي به يوم فتح أبي بكر الصديق مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضا فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد " فاستدل الشافعية بهذا الحديث على تحريم الصبغ بالسواد ، مع أن الحديث في واقعة عين تتعلق بأمر عادي فلا هي من مسائل الحرام والحلال ، ولا من المسائل التي يعتبر فيها العموم كما هو مقرر في الأصول ، وهي مع ذلك معارضة بإطلاق الأمر بصبغ الشيب الموجه للأمة وهو قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أن رواه الشيخان وأصحاب السنن الأربعة - وبقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم " وظاهره تغييره [ ص: 260 ] بهما معا ، وإلا لقال " أو الكتم " ، ويؤيده ما صح عن إن أحسن ما غيرتم به هذا الشيب الحناء والكتم ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يخضب بالحناء والكتم معا ، إنه أسود يضرب إلى الحمرة أي ليس حالكا ، والجمع بين القولين أنه يكون شديد السواد إذا كان قويا مشبعا ، ويضرب إلى الحمرة إذا كان خفيفا ، وهو أسود على كل حال . أبي بكر الصديق
وذكر بعض العلماء أن سبب أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ باجتناب السواد في تغيير شيب أبي قحافة أنه لم يستحسنه لشيخ بلغ من الكبر عتيا ، وكان شعر رأسه ولحيته كالثغامة في شدة بياضه كله ، ومن رجع إلى ذوق البشر العام أدرك أن السواد لا يليق بمثله ، ويؤيده ما ذكره الحافظ في الفتح عن أنه قال : كنا نخضب بالسواد إذ كان الوجه جديدا فلما نفض الوجه والأسنان تركناه اهـ . ولمثل هذه الخصوصيات قال الأصوليون : إن وقائع الأعيان لا عموم لها . وذكر الحافظ في الفتح أيضا : أن الذين أجازوا الصبغ بالسواد تمسكوا بالأمر المطلق بتغييره مخالفة للأعاجم ( وقال ) وقد رخص فيه طائفة من السلف منهم ابن شهاب الزهري ، سعد بن أبي وقاص وعقبة بن عامر والحسن والحسين وجرير وغير واحد ( أي من الصحابة ) أقول : وقد نقل النووي في شرح الحديثين من صحيح مسلم عن بعد جزمه هو بأن الأصح المختار عند الشافعية تحريم السواد ما نصه : القاضي عياض
" وقال القاضي اختلف السلف من الصحابة والتابعين في الخضاب وفي جنسه فقال بعضهم : ترك الخضاب أفضل . ورووا حديثا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في النهي عن تغيير الشيب ، ولأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يغير شيبه ، روي هذا عن عمر وعلي وأبي وآخرين ـ رضي الله عنهم ـ ، وقال آخرون : الخضاب أفضل ، وخضب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم للأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره ، ثم اختلف هؤلاء فكان أكثرهم يخضب بالصفرة منهم ابن عمر وآخرون ، وروي ذلك عن وأبو هريرة علي ، وخضب جماعة منهم بالحناء والكتم ، وبعضهم بالزعفران ، وخضب جماعة بالسواد . روي ذلك عن عثمان والحسن والحسين ابني علي ، وعقبة بن عامر وابن سيرين وأبي بردة وآخرين ( قال القاضي ) قال الصواب أن الآثار المروية عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتغيير الشيب وبالنهي عنه كلها صحيحة ، وليس فيها تناقض ، بل الأمر بالتغيير لمن شيبه كشيب الطبراني أبي قحافة ، والنهي لمن له شمط فقط ( قال ) : واختلاف السلف في فعل الأمرين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك مع أن الأمر والنهي في ذلك ليس للوجوب بالإجماع ; ولهذا لم ينكر بعضها على بعض خلافه في ذلك . ( قال ) : ولا يجوز أن يقال فيهما ناسخ ومنسوخ .
[ ص: 261 ] ( قال القاضي ) وقال غيره هو على حالين فمن كان في موضع عادة أهله الصبغ أو تركه فخروجه عن العادة شهرة ومكروه ، والثاني أنه يختلف باختلاف نظافة الشيب فمن كانت شيبته تكون نقية أحسن منها مصبوغة فالترك أولى ، ومن كانت شيبته تستبشع فالصبغ أولى ( قال النووي ) : هذا ما نقله القاضي ، والأصح الأوفق للسنة ما قدمناه عن مذهبنا والله أعلم اهـ .
أقول : إن هذا الإصرار من النووي رحمه الله تعالى على تصحيح مذهب أصحابه ، وجعله أوفق للسنة من غريب تعصبه لهم بعد العلم بعمل بعض عظماء الصحابة والتابعين بخلافه ، وسائر ما نقله عن القاضي وغيره في المسألة ، ومنه قول الإمام من أن الأمر في هذه المسألة - وكذا أمثالها - ليس للوجوب ، والنهي ليس للتحريم ; لأنها من أمور العادات والزينة والتجمل بين الناس ، وما نقله عنه وعن غيره من كونها تختلف باختلاف السن ، وباختلاف العادة والأحوال بين الناس ، ويعبر فيها الذوق في الزينة هو الصواب كما قال الطبري . وأي مدخل للتحريم في مثل هذا ولا محرم في الشريعة السمحة إلا ما كان ضارا ؟ . الطبري
وقد سبق لنا تفصيل لهذه المسألة وأمثالها كسنن الفطرة في فتاوى المنار ، ومنه أن حديث عند ابن عباس أبي داود " " ضعيف متنا وسندا بل قال يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة : إنه موضوع ويؤيده أن من آيات الوضع في متنه الوعيد بالحرمان من رائحة الجنة على أمر من العادات ، ولا يحرم من الجنة إلا الكافر بالمعنى الأخص دع مخالفته لحديث الصحيحين ، وفي سنده ابن الجوزي عبد الكريم غير منسوب والظاهر أنه وهو ضعيف ، فإن قيل يحتمل أنه ابن أبي المخارق الجزري الذي روى عنه الشيخان قلنا : التصحيح لا يثبت بالاحتمال ، ولا سيما في أمر مخالف لأصول الشرع كهذا الوعيد ، وإن منع من الاحتجاج بما ينفرد به ابن حبان كهذا الحديث . عبد الكريم الجزري
وما نقله القاضي عن الذين اختاروا عدم تغيير الشيب من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يغير شيبته غير صحيح ، بل ثبت في الصحيح أنه خضب رواه وغيره عن البخاري ابن عمر ، وله باب في شمائل وأم سلمة الترمذي فيراجع مع شروحه ، وفي الأصول أن أفعاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تدل من حيث هي على وجوب ولا ندب شرعي ، وإنما تدل على الإباحة ; لأنه لا يفعل الحرام ، وعدم فعله لعادة من عادات الناس أولى بألا يدل على حرمتها ولا كراهتها دينا ، وقد صح أنه نبه الأمة إلى أن بعض أعماله في بعض العبادات لم يقصد بها التشريع كموقفه في عرفات والمزدلفة لئلا يلتزموها تدينا فيكونوا قد شرعوا من الدين [ ص: 262 ] ما لم يأذن به الله ، على أن زمن توخي اتباعه عليه صلوات الله وسلامه ، في العادات ، حبا فيه وتذكرا لحياته الشريفة ، بدون أن يعتقد أن ذلك من الدين أو يوهم الناس ذلك أو يتحمل ضررا لا يباح التعرض له شرعا ، ومن غير أن يكون سبب شهرة مذمومة شرعا - فجدير بأن يكون اتباعه هذا مزيد كمال في إيمانه من حيث إنه بتحري ذلك يزيد تذكره للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحبه له ، وقد انفرد من الصحابة ـ رضي الله عنهما ـ بتتبع أعماله وعاداته وتقلبه في سفره ولا سيما سفر حجة الوداع وتحري اتباعه في ذلك كله ، ولم يكن الصحابة يفعلون ذلك ، لئلا يعده الناس تشريعا فيكون جناية على الدين ، فالزيادة فيه كالنقص منه ، وهي تتضمن تكذيب قوله تعالى : ابن عمر اليوم أكملت لكم دينكم ( 5 : 3 ) .