وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب تأذن صيغة " تفعل " من الإيذان ، وهو الإعلام الذي يبلغ فيدرك بالآذان ، ويتضمن هنا تأكيد القسم ، ومعنى العهد المكتوب الملتزم ، بدليل مجيء لام القسم ونون التوكيد في جوابه ، والمعنى : واذكر أيها الرسول الخاتم العام إذ أعلم ربك هؤلاء القوم المرة بعد المرة أنه قد قضى في علمه وكتب على نفسه ، وفاقا لما أقام عليه نظام الاجتماع البشري من سننه ، ليبعثن ويسلطن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ، أي يريده ويوقعه بهم ، عقابا على ظلمهم وفسقهم وفسادهم ، وهو مجاز من سوم الشيء ، كما يقال سامه خسفا . وسوء العذاب ما يسوء صاحبه ويذله ، وهو هنا سلب الملك ، وإخضاع القهر .
مصداق هذا وتفصيله على ما قررنا قوله تعالى في أول سورة الإسراء : وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ( 17 : 4 ) إلى قوله : وليتبروا ما علوا تتبيرا ( 17 : 7 ) ثم قال : عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا ( 17 : 8 ) الآية أي وإن عدتم بعد عقاب المرة الآخرة إلى الإفساد ، عدنا إلى التعذيب والإذلال ، وقد عادوا فسلط الله عليهم النصارى فسلبوا ملكهم الذي أقاموه بعد نجاتهم من السبي البابلي ، وقهروهم واستذلوهم ، ثم جاء الإسلام فعاداه منهم الذين كانوا هربوا من الذل والنكال ، ولجئوا إلى بلاد العرب فعاشوا فيها أعزاء آمنين ، ولم يفوا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما عاهدهم عليه إذ أمنهم على أنفسهم وحرية دينهم ، بل غدروا به وكادوا له ، ونصروا المشركين عليه ، فسلطه الله عليهم فقاتلهم فنصره عليهم ، فأجلى بعضهم ، وقتل بعضا ، وأجلى عمر من بقي منهم ، ثم فتح عمر سورية ، بعضها بالصلح كبيت المقدس ، وبعضها عنوة ، فصار اليهود من سيادة الروم الجائرة القاهرة فيها إلى سلطة الإسلام العادلة ، ولكنهم ظلوا أذلة بفقد الملك والاستقلال . وقد بينا حقيقة حالهم ، وما يحاولونه من استعادة ملكهم في هذا الزمان في غير هذا الموضع من هذا التفسير ، وفي مواضع من المنار .
إن ربك لسريع العقاب للأمم التي تفسق عن أمره وتفسد في الأرض ، فلا يتخلف عقابه عنها كما يتخلف عن بعض الأفراد وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ( 17 : 16 ) أي أمرناهم بالحق والعدل والرحمة والفضل فعصوا وفسقوا عن الأمر ، وأفسدوا وظلموا في الأرض ، فحق عليهم القول . بمقتضى سنته تعالى في الخلق ، فحل بهم الهلاك على الفور .
وإنه لغفور رحيم لمن تاب عقب الذنب ، وأصلح ما كان أفسد في الأرض ، قبل [ ص: 322 ] أن يحق عليه القول وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ( 20 : 82 ) وهذا كما قال في اليهود بعد ذكر إفسادهم مرتين : عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وقلما ذكر الله عذاب الفاسقين المفسدين ، إلا وقرنه بذكر المغفرة والرحمة للتائبين المحسنين حتى لا ييأس صالح مصلح من رحمته بذنب عمله بجهالة ، ولا يأمن مفسد من عقابه اغترارا بكرمه وعفوه وهو مصر على ذنبه .