وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ، وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون هذه الآيات بدء سياق جديد في شئون البشر العامة المتعلقة بهداية الله لهم ، بما أودع في فطرتهم ، وركب في عقولهم من الاستعداد للإيمان به وتوحيده وشكره ، في إثر بيان هدايته لهم بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب في قصة بني إسرائيل ، فالمناسبة بين هذا وما قبله ظاهرة ; ولذلك عطف عليه عطف جملة على جملة ، أو سياق على سياق ، قال تعالى : .
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم الظهور جمع ظهر وهو العمود الفقري لهيكل الإنسان الذي هو قوام بنيته ، ومركز النخاع الشوكي الذي عليه مدار حياته ، فيصح أن يعبر به عن جملة وجوده الجسدي الحيواني ، والذرية سلالة الإنسان من الذكور والإناث ، قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب ( ذرياتهم ) بالجمع والباقون بالإفراد ومعناهما واحد ; فإن المفرد المضاف يفيد العموم ، ورسمها في المصحف الإمام واحد ، وقوله : من ظهورهم بدل من بني آدم بمعناه ، والجمهور على أنه بدل البعض من الكل ، وهو الظاهر إذا لم يرد بهذا البعض ذلك الكل ، وقال أبو البقاء : هو بدل اشتمال .
والمعنى : واذكر أيها الرسول في أثر ذكر أخذ ميثاق الوحي على بني إسرائيل خاصة ، ما أخذه الله من ميثاق الفطرة والعقل على البشر عامة ، إذ استخرج من بني إسرائيل ذريتهم بطنا [ ص: 326 ] بعد بطن ، فخلقهم الله على فطرة الإسلام ، وأودع في أنفسهم غريزة الإيمان ، وجعل من مدارك عقولهم الضرورية أن كل فعل لا بد له من فاعل ، وكل حادث لا بد له من محدث ، وأن فوق العوالم الممكنة القائمة على سنة الأسباب والمسببات ، والعلل والمعلولات ، سلطانا أعلى على جميع الكائنات ، هو الأول والآخر هو المستحق للعبادة وحده - وقد بسطنا هذه المسألة - وهذا معنى قوله تعالى : وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أي : أشهد كل واحد من هذه الذرية المتسلسلة على نفسه بما أودعه في غريزته ، واستعداد عقله قائلا قول إرادة وتكوين ، لا قول وحي وتلقين ، ألست بربكم ؟ فقالوا كذلك بلغة الاستعداد ولسان الحال ، لا بلسان المقال : بلى أنت ربنا والمستحق وحده لعبادتنا ، فهو من قبيل قوله تعالى بعد ذكر خلق السماء : فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ( 41 : 11 ) وهذا النوع من التعبير والبيان يسمى في عرف علماء البلاغة بالتمثيل ، وهو أعلى أساليب البلاغة ، وشواهده في القرآن وكلام البلغاء كثيرة .
بين سبحانه سبب هذا الإشهاد وعلته فقال : أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أي : فعلنا هذا منعا لاعتذاركم أو احتجاكم يوم القيامة بأن تقولوا : إذا أنتم أشركتم به : إنا كنا غافلين : عن هذا التوحيد للربوبية ، وما يستلزمه من توحيد الإلهية بعبادة الرب وحده . والمراد أنه تعالى لا يقبل منهم الاعتذار بالجهل .
أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم جاهلين ببطلان شركهم ، فلم يسعنا إلا الاقتداء بهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون باختراع الشرك فتجعل عذابنا كعذابهم ، مع عذرنا بتحسين الظن بهم . والمراد : أن الله تعالى لا يقبل منهم الاعتذار بتقليد آبائهم وأجدادهم ، كما أنه لم يقبل منهم الاعتذار بالجهل ، بعد ما أقام عليهم من حجة الفطرة والعقل .
وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون أي : وبمثل هذا التفصيل البليغ نفصل لبني آدم الآيات والدلائل ; ليستعملوا عقولهم ، ولعلهم يرجعون بها عن جهلهم وتقليدهم . والآيات تدل على أن من لم تبلغه بعثة رسول لا يعذر يوم القيامة بالشرك بالله تعالى ، ولا بفعل الفواحش والمنكرات التي تنفر منها الفطرة السليمة ، وتدرك ضررها وفسادها العقول المستقلة ، وإنما يعذرون بمخالفة هداية الرسل فيما شأنه ألا يعرف إلا منهم . وهو أكثر العبادات التفصيلية .
هذا ما يتبادر إلى الفهم من الآيات لذاتها .