ونازع هؤلاء غيرهم في كون هذا معنى الآية ، وقالوا معنى قوله : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم أي : أخرجهم وأنشأهم بعد أن كانوا نطفا في أصلاب الآباء إلى الدنيا على ترتيبهم في الوجود ، وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم بما أظهر لهم من آياته وبراهينه التي تضطرهم إلى أن يعلموا أنه خالقهم ، فليس من أحد إلا وفيه من صنعة ربه ما يشهد على أنه باريه ، ونافذ الحكم فيه ، فلما عرفوا ذلك ودعاهم كل ما يرون ويشاهدون إلى التصديق به كانوا بمنزلة الشاهدين والمشهدين على أنفسهم بصحته . كما قال في غير هذا الموضع : شاهدين على أنفسهم بالكفر ( 9 : 17 ) يريدهم بمنزلة الشاهدين ، وإن لم يقولوا نحن كفرة ، وكما تقول : قد شهدت جوارحي بقولك ، تريد : قد عرفته ، فكأن جوارحي لو استشهدت وفي وسعها أن تنطق لشهدت ، ومن هذا إعلامه وتبيينه أيضا شهد الله أنه لا إله إلا هو ( 3 : 18 ) يريد : أعلم وبين فأشبه ذلك شهادة من شهد عند الحكام وغيرهم . هذا كلام . وزاد ابن الأنباري الجرجاني بيانا لهذا القول فقال حاكيا عن أصحابه : إن الله لما خلق الخلق ونفذ علمه [ ص: 334 ] فيهم بما هو كائن ، وما لم يكن بعد مما هو كائن كالكائن إذ علمه بكونه مانع من غير كونه نابع في مجاز العربية أن يوضع ما هو منتظر بعد - مما لم يقع بعد - موقع الواقع ، لسبق علمه بوقوعه ، كما قال عز وجل في مواضع من القرآن كقوله : ونادى أصحاب النار ( 7 : 50 ) ونادى أصحاب الجنة ( 7 : 44 ) - ونادى أصحاب الأعراف ( 7 : 48 ) قال : فيكون تأويل قوله وإذ أخذ ربك : وإذ يأخذ ربك ، وكذلك قوله : وأشهدهم على أنفسهم أي : ويشهدهم بما ركبه فيهم من العقل الذي يكون به الفهم ، ويجب به الثواب والعقاب وكل من ولد وبلغ الحنث ، وعقل الضر والنفع ، وفهم الوعد والوعيد ، والثواب والعقاب ، صار كأن الله تعالى أخذ عليه الميثاق في التوحيد بما ركب فيه من العقل ، وأراه من الآيات والدلائل على حدوثه ، وأنه لا يجوز أن يكون قد خلق نفسه ، وإذا لم يجز ذلك فلا بد له من خالق هو غيره ليس كمثله ، وليس من مخلوق يبلغ هذا المبلغ ، ولم يقدح فيه مانع من فهم إلا إذا حزبه أمر يفزع إلى الله عز وجل حين يرفع رأسه إلى السماء ، ويشير إليها بإصبعه علما منه بأن خالقه تعالى فوقه ، وإذا كان العقل الذي منه الفهم والإفهام مؤديا إلى معرفة ما ذكرنا ودالا عليه ، فكل من بلغ هذا المبلغ فقد أخذ عليه العهد والميثاق ، إذ جعل فيه السبب والأدلة اللذين بهما يؤخذ العهد والميثاق ، وجائز أن يقال له قد أقر وأذعن وأسلم كما قال الله عز وجل ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها ( 13 : 15 ) قال واحتجوا بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى ينتبه
وقوله عز وجل : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ثم قال : وحملها الإنسان ( 33 : 72 ) الأمانة هي عهد وميثاق . فامتناع السماوات والأرض والجبال من حمل الأمانة خلوها من العقل الذي يكون به الفهم والإفهام ، وحمل الإنسان إياها لمكان العقل فيه . قال : وللعرب فيها ضروب نظم فمنها قوله :
ضمن القنان لفقعس بثباتها إن القنان لفقعس لا يأتلي
والقنان : جبل ، فذكر أنه قد ضمن لفقعس وضمانه لهم أنهم كانوا إذا حزبهم أمر من هزيمة أو خوف لجئوا إليه فجعل ذلك كالضمان لهم ، ومنه قول النابغة :كأجارف الجولان هلل ربه وجوران منها خاشع متضائل
شهد الحطيئة حين يلقى ربه أن الوليد أحق بالعذر
وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم