ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو يسألونك مناسبة هذه الآية لما قبلها أنها إرشاد إلى النظر والتفكر في أمر الساعة التي ينتهي بها أجل جميع الناس ، في أثر الإرشاد إلى النظر والتفكر في اقتراب أجل من كانوا في عصر التنزيل وعهد نزول هذه السورة منهم ، وبعبارة أخرى أنها كلام في الساعة العامة ، وبعد الكلام في الساعة الخاصة . قال تعالى :
يسألونك عن الساعة أيان مرساها الساعة في اللغة جزء قليل غير معين من الزمان ، وتسمى ساعة زمانية ، ومنه قوله تعالى في أوائل هذه السورة : لا يستأخرون ساعة ( 7 : 34 ) وفي اصطلاح الفلكيين جزء من 24 جزءا متساوية من اليوم والليلة ، وهي تنقسم إلى ستين دقيقة ، والدقيقة إلى ستين ثانية ، وقد صار هذا التقسيم عرفا عاما في جميع البلاد الحضرية يضبط بآلة تسمى الساعة ، وكان معروفا عند العرب ، وثبت في الحديث " يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة " يعني نهارها .
وفي لسان العرب : الساعة جزء من أجزاء الليل والنهار ، والجميع ساعات وساع ، وجاءنا بعد سوع من الليل وبعد سواع . أي بعد هدء منه - أو بعد ساعة . والساعة الوقت الحاضر ، وقوله تعالى : ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ( 30 : 55 ) يعني بالساعة الوقت الذي تقوم فيه القيامة ، فلذلك ترك أن يعرف أي ساعة هي . فإن سميت القيامة ساعة فعلى هذا ، والساعة القيامة . وقال : اسم للوقت الذي يصعق فيه العباد ، والوقت الذي يبعثون فيه وتقوم فيه القيامة ، سميت ساعة ; لأنها تفجأ الناس في ساعة فيموت الخلق كلهم عند الصيحة الأولى التي ذكرها الله عز وجل فقال : الزجاج إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون ( 36 : 29 ) ثم ذكر أنه تكرر ذكرها في القرآن والحديث ، وأنها تطلق في الأصل بمعنين ، وهما [ ص: 287 ] ما ذكرنا أولا من الساعة الزمانية والساعة الفلكية ، وقال في المعنى الأول : يقال جلست عندك ساعة من النهار أي وقتا قليلا منه ثم استعير لاسم يوم القيامة ، قال : الزجاج : معنى الساعة في كل القرآن - يريد أنها ساعة خفيفة يحدث فيها أمر عظيم ، فلقلة الوقت الذي تقوم فيه سماها ساعة اهـ أقول : الصواب أنها استعملت في القرآن منكرة بمعنى الساعة الزمانية ، ومعرفة بالألف واللام العهدية بمعنى الساعة الشرعية ، وهي ساعة خراب هذا العالم ، وموت أهل الأرض ، وجمع بينهما في قوله تعالى : الوقت الذي تقوم فيه القيامة ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة ( 30 : 55 ) وقيل : إن هذا القول هو وجه تسميتها بالساعة .
والغالب في استعمال القرآن التعبير بيوم القيامة عن يوم البعث والحشر الذي يكون بعد الموت ، الذي يكون فيه الحساب ، وما يتلوه من الجزاء - والتعبير بالساعة عن الوقت الذي يموت فيه الأحياء في هذا العالم ، ويضطرب نظامه ويخرب بما يكون فيه من الأهوال يتلو بعضها بعضا ، فالساعة هي المبدأ ، والقيامة هي الغاية ، ففي الأولى الموت والهلاك ، وفي الآخرة البعث والجزاء . وبعض التعبيرات في كل منهما يحتمل حلوله محل الآخر في الغالب ، وفي المعنى المشترك الذي يعم المبدأ والغاية . وحمل بعض المفسرين الآيات على القيامة الصغرى لكل فرد وهي ساعة موته ، وزاد بعضهم القيامة الوسطى ، وهي هلاك الجيل أو القرن ، وفسروا به حديث " رواه إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة من حديث البخاري . وقد يراد بالساعة هنا ساعة زوال الدولة; لأن هذا من شئونها ، واستدلوا عليه بحديث أبي هريرة إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته رواه الديلمي عن أنس مرفوعا . وفي حديث عائشة من صحيح مسلم : ومثله من حديث كان الأعراب يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال " إن يعش هذا لم يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم " أنس عنده أيضا وهو أصرح من حديث لإضافة الساعة إليهم . قال أبي هريرة الداوودي : هذا الجواب من معاريض الكلام فإنه لو قال لهم : لا أدري - ابتداء مع ما هم فيه من الجفاء ، وقبل تمكن الإيمان في قلوبهم - لارتابوا ، فعدل إلى إعلامهم بالوقت الذي ينقرضون هم فيه . وقال الكرماني : إن هذا الجواب من الأسلوب الحكيم ، أي دعوا السؤال عن وقت القيامة الكبرى فإنها لا يعلمها إلا الله ، واسألوا عن الوقت الذي يقع فيه انقراض عصركم فهو أولى لكم ; لأن معرفتكم تبعثكم على ملازمة العمل الصالح قبل فوته ; لأن أحدكم لا يدري من الذي يسبق الآخر اهـ . وقال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتكلم بأشياء على سبيل القياس ، وهو دليل معمول به ، فكأنه لما نزلت عليه الآيات في قرب الساعة كقوله تعالى : ابن الجوزي أتى أمر الله فلا تستعجلوه ( 16 : 1 ) وقوله : [ ص: 388 ] وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب ( 16 : 77 ) حمل ذلك على أنها لا تزيد على مضي قرن واحد ، ومن ثم قال في الدجال " إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه " فجوز خروج الدجال في حياته . قال : وفيه وجه آخر - وذكر مثل ما تقدم عن الداوودي ، ورجحه الحافظ في الفتح .
ومما اختلفوا في تفسير الساعة فيه بالوجوه الثلاثة المذكورة قوله تعالى : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها ( 6 : 31 ) وقوله تعالى : قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين ( 6 : 40 ) ؟ ويراجع تفسيرهما في الجزء السابع .
وحيث يذكر قيام الساعة كآيات سورة الروم الثلاث ( 12 و 14 و 55 ) وآية سورة غافر : ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ( 40 : 46 ) فالمتبادر منه غايتها يوم البعث والحساب والجزاء - وحيث يذكر التكذيب بها أو المماراة فيها ، فالمراد المعنى العام لكل ما وعد الله به وأوعد من أمر مبئسها وغايتها .
وحيث يذكر اقتراب الساعة أو مجيئها وإثباتها ولا سيما إذا قرن ببغتة ، فالمتبادر منه مبدأ القيامة وخراب العالم الذي نعيش فيه ، ومن هذا القبيل السؤال عنها فإن السؤال يكون عن أول الأمر المنتظر في الغالب ، ومنه آية الأعراف التي نحن بصدد تفسيرها .
فقوله تعالى : أيان مرساها معناه يسألونك أيها الرسول عن الساعة قائلين : أيان مرساها ؟ أي متى إرساؤها وحصولها واستقرارها - أو يسألونك عنها من حيث زمن مجيئها وثبوتها بالوقوع والحصول . . . فأيان ظرف زمان ، ومرساها ، مصدر معناه إرساؤها ، يقال : رسا الشيء يرسو : ثبت ، وأرساه غيره ، ومنه إرساء السفينة وإيقافها بالمرساة التي تلقى في البحر فتمنعها من الجريان ، قال تعالى : بسم الله مجراها ومرساها ( 11 : 41 ) وقال : والجبال أرساها ( 79 : 32 ) .
وفي السؤال عن زمن وقوعها بحرف الإرساء الدال على استقرار ما شأنه الحركة والجريان أو الميدان والاضطراب - نكتة دقيقة هي في أعلى درج البلاغة . وهو أن وانقضاء عمر هذه الأرض التي تدور بمن فيها من العوالم المتحركة المضطربة ، فعبر بإرسائها عن منتهى أمرها ووقوف سيرها ، والساعة زمن ، وهو أمر مقدر ، لا جسم سائر أو مسير ، وما يقع فيها ويعبر بها عنه فهو حركة اضطراب وزلزال ، لا رسو ولا إرساء ، وهو أمر مستقبل لا حاصل ، ومتوقع لا واقع ، وقوله تعالى : قيام الساعة عبارة عن انتهاء أمر هذا العالم ، إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع ( 52 : 7 ، 8 ) معناه أنه سيقع حتما ; ولذلك علق به بيان ما يقع فيه بقوله : يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا فويل يومئذ للمكذبين [ ص: 389 ] ( 152 : 9 - 11 ) فلم يبق لإرسائها معنى إلا إرساء حركة هذا العالم فيها ، وإنه لتعبير بليغ ، لم يعهد له في كلام البلغاء نظير ، ولم أر أحدا نبه لهذا . وذكر الساعة أولا ، والاستفهام عن زمن وقوعها ثانيا على قاعدة تقديم الأهم ، وهو المقصود بالذات .
قيل : إن المراد بالسائلين هنا اليهود ، سألوه عنها امتحانا . قالوا : إن كان نبيا فإنه لا يعين لها زمنا; لأن الله تعالى لم يطلع على ذلك أحدا من رسله ، وقيل : قريش . ويرجحه أن السورة مكية ، ولم يكن في مكة أحد من اليهود ، وصيغة " يسألونك " المتبادر منها الحال لا الاستقبال البعيد ، وفي آية الأحزاب يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا ( 33 : 63 ) وهذه مدنية .
قال ابن كثير بعد ترجيح كون السائلين من قريش : وكانوا يسألون عن وقت الساعة استبعادا لوقوعها ، وتكذيبا بوجودها كما قال تعالى : ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ( 10 : 48 ) وقال تعالى : يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد ( 42 : 18 ) وقوله : أيان مرساها قال علي بن طلحة عن : منتهاها . أي متى محطها ، وأيان آخر مدة الدنيا الذي هو أول وقت الساعة اهـ . ابن عباس