[ ص: 488 ] بسم الله الرحمن الرحيم
قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين يسألونك عن الأنفال إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم . روى أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ابن عباس يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول وذلك في غزوة بدر وروى من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا ، فأما المشيخة ( أي المشايخ ) فثبتوا تحت الرايات ، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم ، فقالت المشيخة للشبان : " إنا كنا لكم ردءا ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا ، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت : أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي أنه قتل سعد بن أبي وقاص وأخذ سيفه واستوهبه النبي صلى الله عليه وسلم فمنعه إياه ، وأن الآية نزلت في ذلك فأعطاه إياه سعيد بن العاص ; لأن الأمر وكل إليه صلى الله عليه وسلم ، عن عن : أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس فنزلت هذه الآية ، وجملة القول : أنها نزلت في غنائم غزوة ابن جرير بدر تنازع فيها حائزوها من الشبان وسائر المقاتلة ، وقيل : المهاجرون والأنصار .
قال تعالى : يسألونك عن الأنفال جمع نفل بالتحريك وهو في أصل اللغة من النفل - بفتح وسكون - أي الزيادة عن الواجب ومنه الصلاة النفل - قال الأنفال الراغب : النفل : هو الغنيمة بعينها ، لكن اختلفت العبارة عنه لاختلاف الاعتبار فإنه إذا اعتبر بكونه مظفورا به ، يقال : غنيمة ، وإذا اعتبر بكونه منحة من الله ابتداء من غير وجوب يقال له : [ ص: 489 ] نفل ، ومنهم من فرق بينهما من حيث العموم والخصوص ، فقال : الغنيمة كل ما حصل مستغنما بتعب كان أو بغير تعب ، وباستحقاق أو بغير استحقاق ، وقبل الظفر كان أو بعده ، والنفل ما يحصل للإنسان قبل القسمة من جملة الغنيمة ، وقيل : هو ما يحصل للمسلمين بغير قتال وهو الفيء ، وقيل : ما يحصل من المتاع قبل أن تقسم الغنائم ، وعلى هذا حملوا قوله : يسألونك عن الأنفال الآية .
والمعنى : يسألونك أيها الرسول عن الأنفال لمن هي ؟ أللشبان أم للمشيخة ؟ أم للمهاجرين أم للأنصار قل الأنفال لله والرسول أي: قل لهم : الأنفال لله يحكم فيها بحكمه ، وللرسول يقسمها بحسب حكم الله تعالى ، وقد قسمها صلى الله عليه وسلم بالسواء ، وهذا لا ينافي التفصيل الذي سيأتي في قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ( 41 ) إلخ ، فيكون التفصيل ناسخا للإجمال كما قال مجاهد وعكرمة والسدي ، فالصواب قول ابن زيد : إن الآية محكمة ، وقد بين الله مصارفها في آية الخمس ، وللإمام أن ينفل من شاء من الجيش ما شاء قبل التخميس فاتقوا الله في المشاجرة والخلاف والتنازع ، وسيأتي في الصورة مضار ذلك ولا سيما في حال الحرب وأصلحوا ذات بينكم أي: أصلحوا نفس ما بينكم ، وهي الحال والصلة التي بينكم تربط بعضكم ببعض وهي رابطة الإسلام ، وإصلاحها يكون بالوفاق والتعاون والمواساة وترك الأثرة والتفرق ، والإيثار أيضا ، والبين في أصل اللغة يطلق على الاتصال والافتراق ، وكل ما بين طرفين كما قال : لقد تقطع بينكم ( 6 : 94 ) ويعبر عن هذه الرابطة بذات البين ، وأمرنا في الكتاب والسنة فهو واجب شرعا تتوقف عليه قوة الأمة وعزتها ومنعتها وتحفظ به وحدتها بإصلاح ذات البين ، وأطيعوا الله ورسوله في الغنائم وفي كل أمر ونهي وقضاء وحكم ، فالله تعالى يطاع لذاته; لأنه رب العالمين ، ومالك أمرهم ، والرسول يطاع في أمر الدين; لأنه مبلغ له عن الله تعالى ، ومبين لوحيه فيه بالقول والفعل والحكم ، وهذه الطاعة له تعبدية لا رأي لأحد فيها ، وتتوقف عليها النجاة في الآخرة والفوز بثوابها ، ويطاع في اجتهاده في أمر الدنيا المتعلق بالمصالح العامة ، ولا سيما الحرب من حيث إنه الإمام القائد العام ، فمخالفته إخلال بالنظام العام ، وإفضاء إلى الفوضى التي لا تقوم معها للأمة قائمة ، فهذه الطاعة واجبة شرعا كالأولى إلا أنها معقولة المعنى ، فقد أمره الله تعالى في تنفيذ أحكامه ، وإدارته بمشاورة الأمة كما تقدم في سورة آل عمران ، وأشرك معه في هذه الطاعة أولي الأمر كما تقدم في سورة النساء ، وسيأتي كيف راجعه بعضهم في هذه الغزوة المفصلة أحكامها في هذه السورة ، ورجع عن رأيه صلى الله عليه وسلم إلى الرأي الذي ظهر صوابه ، ولكن الأمر الأخير لا بد أن يكون لهم كما شاورهم في غزوة أحد في الخروج من المدينة أو البقاء فيها ، فلما انتهت المشاورة ، وعزم على تنفيذ رأي الجمهور راجعوه فلم يقبل [ ص: 490 ] مراجعة ، وقد بينا هذا مع حكمته في تفسير وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ( 3 : 159 ) وترى في تلك السورة كيف كانت مخالفة الرماة له صلى الله عليه وسلم سببا في ظهور العدو على المسلمين ، فراجع تفسير أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ( 3 : 165 ) في 184 وما بعدها ج 4 ط الهيئة .
ولأئمة المسلمين منهم من حق الطاعة في تنفيذ المشروع ، وإدارة الأمور العامة ، وقيادة الجند ما كان له صلى الله عليه وسلم منه ، مقيدا بعدم معصية الله تعالى ، وبمشاورة أولي الأمر ، كما تقدم تفصيله في تفسير : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ( 4 : 59 ) الآية .
ثم قال تعالى : إن كنتم مؤمنين أي: فامتثلوا الأوامر الثلاثة فإن الإيمان يقتضي ذلك كله ; لأن الله تعالى أوجبه ، والمؤمن بالله غير المرتاب بوعده ووعيده يكون له سائق من نفسه إلى طاعته ، إلا أن يعرض له ما يغلبه عليها أحيانا من ثورة شهوة أو ثورة غضب ، ثم لا يلبث أن يفيء إلى أمر الله ، ويتوب إليه مما عرض له ، كما تقدم في تفسير : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ( 4 : 17 ) إلخ ، ثم وصف الله المؤمنين بما يدل على هذا ويثبته فقال :