يجادلونك في الحق بعدما تبين قال بعض العلماء : إن هذه الآية نزلت في مجادلة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم في أمر الدين والتوحيد ، وهي بهم أليق ، ولكن ما قبلها وما بعدها في بيان حال المؤمنين ، وما كان من هفوات بعضهم التي محصهم الله بعدها يعين كونها فيهم وفاقا فيه ، وفي رد ذلك القول ، ومشايعة لأبي جعفر بن جرير ابن كثير له ، وذكر أن مجاهدا فسر الحق هنا بالقتال وكذا وعلل الجدال فيه بقوله : كراهية للقاء المشركين ، وإنكارا لمسير ابن إسحاق ، قريش حين ذكروا لهم ، وبيان ذلك أن المسلمين كانوا في حال ضعف ، فكان من حكمة الله تعالى أن وعدهم الله أولا إحدى طائفتي قريش تكون على الإبهام ، فتعلقت آمالهم بطائفة العير القادمة من الشام ; لأنها كسب عظيم لا مشقة في إحرازه; لضعف حاميته ، فلما ظهر أنها فاتتهم ، وأن طائفة النفير خرجت من مكة بكل ما كان عند قريش من قوة وقربت منهم ، وتعين عليهم قتالها ، إذ تبين أنها هي الطائفة التي وعدهم الله تعالى إذ لم يبق غيرها ، صعب على بعضهم لقاؤها على قلتهم وكثرتها ، وضعفهم وقوتها ، وعدم استعدادهم للقتال كاستعدادها ، وطفقوا يعتذرون للنبي صلى الله عليه وسلم اعتذارات جدلية بأنهم لم يخرجوا إلا للعير ; لأنه لم يذكر لهم قتالا فيستعدوا له ، كأنهم يحاولون إثبات أن مراد الله تعالى بإحدى الطائفتين العير ، بدليل عدم أمرهم بالاستعداد للقتال ، ولكن الحق تبين بحيث لم يبق للجدال فيه وجه ما - لا بأن يقال إن طائفة العير مراد الله تعالى فإنها نجت وذهبت من طريق سيف البحر ، ولو كانت هي المرادة لما نجت ، ولا بأن يقال إننا لم نعد للقتال عدته فلا يمكننا طلب الطائفة الأخرى فإنه مهما تكن حالها فلا بد من الظفر لوعد الله تعالى ، فلم يبق لجدالهم وجه إلا الجبن والخوف من القتال ; ولذلك قال : كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون أي: كأنهم من فرط جزعهم ورعبهم يساقون إلى الموت سوقا لا مهرب منه; لظهور أسبابه ، حتى كأنهم ينظرون إليه بأعينهم ، وهي ما ذكرنا من التفاوت بين حالهم وحال المشركين في العدد والعدد والخيل والزاد ، ولكن الله تعالى وعد رسوله والمؤمنين الظفر بهم ، وهذا دليل قطعي لا يتخلف عند المؤمن الموقن ، وما تلك إلا أسباب عادية كثيرة التخلف كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ( 2 : 249 ) وهكذا أنجز الله وعده ، وكان الظفر التام للمؤمنين ، وقد بين تعالى ذلك كله بقوله : وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم تولى الله تعالى إقامة الحجة عليهم بالحق فيما جادلوا فيه رسوله بالباطل ، ووجه الخطاب إليهم بعد أن كان الخطاب له صلى الله عليه وسلم فقال : واذكروا إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين - العير أو النفير - أنها لكم ، وهذا التعبير [ ص: 500 ] آكد في الوعد من مثل : وإذ يعدكم الله أن إحدى الطائفتين لكم ; لأن هذا إثبات بعد إثبات ، إثبات للشيء في نفسه ، وإثبات له في بدله وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم أي: وتحبون وتتمنون أن الطائفة غير ذات الشوكة وهي العير تكون لكم ; لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا . والشوكة الحدة والقوة ، وأصلها واحدة الشوك شبهوا بها أسنة الرماح ، ثم أطلقوها تجوزا على كل حديد من السلاح ، فقالوا : شائك السلاح وشاكي السلاح . وإنما عبر عنها بهذا التعبير; للتعريض بكراهتهم للقتال ، وطمعهم في المال ، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته أي: ويريد الله بوعده غير ما أردتم ، يريد أن يحق الحق الذي أراده بكلماته المنزلة على رسوله ، أي وعده لكم إحدى الطائفتين مبهمة وبيانها له معينة مع ضمان النصر له ويقطع دابر الكافرين المعاندين له من مشركي مكة وأعوانهم باستئصالهم شأفتهم ، ومحق قوتهم ، فإن دابر القوم آخرهم الذي يأتي في دبرهم ، ويكون من ورائهم ، ولن يصل إليه الهلاك إلا بهلاك من قبله من الجيش ، وهكذا كان الظفر ببدر فاتحة الظفر فيما بعدها إلى أن قطع الله دابر المشركين بفتح مكة ، وما تخلل ذلك من نيلهم من المؤمنين في أحد وحنين فإنما كان تربية على ذنوب لهم اقترفوها كما قال تعالى في الأولى : أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ( 3 : 165 ) وكقوله تعالى : وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ( 3 : 141 ) وقال في الثانية : ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا إلى قوله : ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ( 9 : 25 ، 26 ) إلخ .
قال في الكشاف : يعني أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفاسف الأمور ، وألا تلقوا ما يرزؤكم في أبدانكم وأموالكم ، والله عز وجل يريد لكم معالي الأمور ، وما يرجع إلى عمارة الدين ونصرة الحق وعلو الكلمة ، والفوز في الدارين ، وشتان ما بين المرادين : ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة ، وكسر قوتهم بضعفكم ، وغلب كثرتهم بقلتكم ، وأعزكم ، وأذلهم ، وحصل لكم ما لا تعارض أدناه العير وما فيها .
ليحق الحق ويبطل الباطل أي: وعد بما وعد وأراد بإحدى الطائفتين ذات الشوكة ليحق الحق ، أي يقره ويثبته; لأنه الحق - وهو الإسلام - ويبطل الباطل أي يزيله ويمحقه - وهو الشرك - ولو كره المجرمون أولو الاعتداء والطغيان من المشركين . وإحقاق الحق وإبطال الباطل لا يكون باستيلائهم على العير ، بل بقتل أئمة الكفر والطاغوت من صناديد قريش المعاندين الذين خرجوا إليكم من مكة ; ليستأصلوكم . وقد علم مما فسرنا به الحق في الآيتين أنه لا تكرار فيه ، فالحق الأول هو القتال لطائفة النفير مع ضمان النصر للمؤمنين ، ومحق الكافرين ، والثاني هو الإسلام ، وهو المقصد ، والأول وسيلة له . وهذا أظهر مما قاله الزمخشري وابن المنير .