سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب الرعب بوزن قفل اسم مصدر من رعبه ( وتضم عينه ) وبه قرأ ابن عامر ، ومعناه الخوف الذي يملأ القلب . ولما فيه من معنى الملء يقال : رعبت الحوض أو الإناء أي ملأته ، ورعب السيل الوادي . وقيل : أصل معناه القطع إذ يقال رعبت السنام ورعبته ترعيبا إذا قطعته طولا ، وفسره والكسائي الراغب بما يجمع بين المعنيين فقال : الرعب الانقطاع من امتلاء الخوف اهـ . ويقال : رعبته ( من باب فتح ) وأرعبته ، وأبلغ منه تعبير التنزيل بإلقاء الرعب ، وبقذف الرعب في القلب لما فيه من الإشعار بأنه يصب في القلوب دفعة واحدة فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان - أي: فاضربوا الهام وافلقوا الرءوس أو اضربوا على الأعناق ، وقطعوا الأيدي ذات البنان التي هي أداة التصرف في الضرب وغيره ، وهو متعين في حال هجوم الفارس من الكفار على الراجل من المسلمين ، فإذا لم يسبق هذا إلى قطع يده قطع ذاك رأسه . والبنان جمع بنانة وهو أطراف الأصابع .
وفي تفسير ابن كثير عن بعض المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يمر بين القتلى ببدر - أي بعد انتهاء المعركة - ويقول : " نفلق هاما " فيتم البيت أبو بكر رضي الله عنه وهو
نفلق هاما من رجال أعزة علينا ، وهم كانوا أعق وأظلما
وهو يدل على ألمه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله من الضرورة التي اضطرتهم إلى قتل صناديد قومه . واسم التفضيل في " أعق وأظلم " هنا على غير بابه مراعاة للظاهر فإن المشركين وحدهم هم الذين عقوه صلى الله عليه وسلم وظلموه هو ومن آمن به ، حتى [ ص: 510 ] أخرجوهم من وطنهم بغيا وعدوانا ثم تبعوهم إلى دار هجرتهم يقاتلونهم فيها ، وروي أنه أوصى بنفر من بني هاشم آله خرجوا مع المشركين كرها ألا يقتلوا ، كان منهم عمه العباس رضي الله عنه ولم يكن أسلم .مقتضى السياق أن وحي الله للملائكة قد تم بأمره إياهم بتثبيت المؤمنين ، كما يدل عليه الحصر في قوله عن إمداد الملائكة : وما جعله الله إلا بشرى إلخ . وقوله تعالى : سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب إلخ . بدء كلام خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون تتمة للبشرى ، فيكون الأمر بالضرب موجها إلى المؤمنين قطعا ، وعليه المحققون الذين جزموا بأن الملائكة لم تقاتل يوم بدر تبعا لما قبله من الآيات ، وقيل : إن هذا مما أوحي إلى الملائكة ، وتأوله هؤلاء بأنه تعالى أمرهم بأن يلقوا هذا المعنى في قلوب المؤمنين بالإلهام ، كما كان الشيطان يخوفهم ، ويلقي في قلوبهم ضده بالوسواس . ولا يرد على الأول ما قيل من أنه لا يصح إلا إذا كان الخطاب قد وجه إلى المؤمنين قبل القتال ، والسورة قد نزلت بعده - ; لأن نزول السورة بنظمها وترتيبها بعده لا ينافي حصول معانيها قبله وفي أثنائه ، فإن البشارة بالإمداد بالملائكة وما وليه قد حصل قبل القتال ، وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ، ثم ذكرهم الله تعالى به بإنزال السورة برمتها تذكيرا بمننه ، ولولا هذا لم تكن للبشارة تلك الفائدة ، والخطاب في السياق كله موجه إلى المؤمنين ، وإنما ذكر فيها وحيه تعالى للملائكة بما ذكر عرضا . وقد غفل عن هذا المعنى الألوسي تبعا لغيره وادعى أن الآية ظاهرة في قتال الملائكة ، وقد وردت روايات ضعيفة تدل على قتال الملائكة لم يعبأ الإمام بشيء منها ، ولم يجعلها حقيقة أن تذكر ، ولو لترجيح غيرها عليها . ابن جرير
وما أدري أين يضع بعض العلماء عقولهم عندما يغترون ببعض الظواهر وبعض الروايات الغريبة التي يردها العقل ، ولا يثبتها ما له قيمة من النقل . فإذا كان تأييد الله للمؤمنين بالتأييدات الروحانية التي تضاعف القوة المعنوية ، وتسهيله لهم الأسباب الحسية كإنزال المطر ، وما كان له من الفوائد لم يكن كافيا لنصره إياهم على المشركين بقتل سبعين وأسر سبعين حتى كان ألف - وقيل آلاف - من الملائكة يقاتلونهم معهم فيفلقون منهم الهام ، ويقطعون من أيديهم كل بنان ، فأي مزية لأهل بدر فضلوا بها على سائر المؤمنين ممن غزوا بعدهم ، وأذلوا المشركين وقتلوا منهم الألوف ؟ ! وبماذا استحقوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه : أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ؟ " رواه " وما يدريك لعل الله عز وجل اطلع على البخاري ومسلم وغيرهما . وفي كتب السير وصف للمعركة علم منه القاتلون والآسرون لأشد المشركين بأسا - فهل تعارض هذه البينات النقلية والعقلية بروايات لم يرها شيخ المفسرين حرية بأن تنقل . ولم يذكر ابن جرير ابن كثير منها إلا قول " كان [ ص: 511 ] الناس يوم الربيع بن أنس : بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوا بضرب فوق الأعناق ، وعلى البنان ، مثل سمة النار قد أحرق به " ومن أين جاء الربيع بهذه الدعوى ؟ ومن ذا الذي رؤي من القتلى بهذه الصفة ؟ وكم عدد من قتل الملائكة من السبعين ، وعدد من قتل أهل بدر غير من سموا وقالوا قتلهم فلان وفلان ؟ كفانا الله شر هذه الروايات الباطلة التي شوهت التفسير وقلبت الحقائق ، حتى إنها خالفت نص القرآن نفسه ، فالله تعالى يقول في إمداد الملائكة : وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وهذه الروايات تقول بل جعلها مقاتلة ، وأن هؤلاء السبعين الذين قتلوا من المشركين لم يمكن قتلهم إلا باجتماع ألف أو ألوف من الملائكة عليهم مع المسلمين الذين خصهم الله بما ذكر من أسباب النصرة المتعددة ! .
ألا إن في هذا من شأن تعظيم المشركين ، ورفع شأنهم ، وتكبير شجاعتهم ، وتصغير شأن أفضل أصحاب الرسول ، وأشجعهم ما لا يصدر عن عاقل إلا وقد سلب عقله لتصحيح روايات باطلة لا يصح لها سند ، ولم يرفع منها إلا حديث مرسل عن ذكره ابن عباس الألوسي وغيره بغير سند ، لم يحضر غزوة وابن عباس بدر ; لأنه كان صغيرا ، فرواياته عنها حتى في الصحيح مرسلة ، وقد روي عن غير الصحابة حتى عن وأمثاله . كعب الأحبار
ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله أي: ذلك الذي ذكره كله من تأييده تعالى للمؤمنين وخذلانه للمشركين ; بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله أي عادوهما ، فكان كل منهما في شق غير الذي فيه الآخر فالله هو الحق والداعي إلى الحق ، ورسوله هو المبلغ عنه الحق ، والمشركون على الباطل ، وما يترتب عليه من الشرور والخرافات ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب أي: فإن عقاب الله شديد ، وأحق الناس به المشاقون له بإيثار الشرك ، وعبادة الطاغوت على توحيده وعبادته ، وبالاعتداء على أوليائه أولا بمحاولة ردهم عن دينهم بالقوة والقهر ، وإخراجهم من ديارهم ثم اتباعهم إلى مهجرهم يقاتلونهم فيه .
ذلكم فذوقوه الخطاب للمشركين المنكسرين في غزوة بدر ، أي لمن بقي منهم من الأسرى والمهزومين على طريق الالتفات عن الغيبة في قوله تعالى قبله : بأنهم شاقوا الله ورسوله والمعنى الأمر ذلكم - أي أن الأمر المبين آنفا وهو أن الله تعالى شديد العقاب لمن يشاقه ورسوله - فذوقوا هذا العقاب الشديد ، وهو الانكسار والانهزام مع الخزي والذل أمام فئة قليلة العدد والعدد من المسلمين وأن للكافرين عذاب النار هذا عطف على ما قبله ، أي والأمر المقرر مع هذا العقاب الدنيوي أن للكافرين عذاب النار في الآخرة ، فمن أصر منكم على كفره عذب هنالك فيها ، وهو شر العذابين وأدومهما ، وفي الجمع بين عذاب الدنيا والآخرة للكفار آيات متفرقة في عدة سور .