وفي عدة روايات عن عبد الله بن قتادة والزهري والكلبي والسدي وعكرمة أنها نزلت في أبي لبابة رضي الله عنه فإنه كان حليفا لبني قريظة من اليهود ، فلما خرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد إجلاء إخوانهم من بني النضير ، أرادوا بعد طول الحصار أن ينزلوا من حصنهم على حكم ، وكان من حلفائهم من قبل غدرهم ونقضهم لعهد النبي صلى الله عليه وسلم فأشار إليهم سعد بن معاذ أبو لبابة بألا يفعلوا ، وأشار إلى حلقه يعني أن سعدا يحكم بذبحهم ، فنزلت الآية . قال أبو لبابة : " ما زالت قدماي حتى علمت أنني خنت الله ورسوله " وفي رواية عن عبد بن حميد الكلبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا لبابة إلى بني قريظة وكان حليفا لهم ، بل روي أنه كان وضع ماله وولده عندهم ، فأومأ بيده إلى الذبح ، فأنزل الله الآية - وذكرها ثم قال - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة أبي لبابة : " أيصوم ويصلي ويغتسل من الجنابة ؟ فقالت : إنه ليصوم ويصلي ويغتسل من الجنابة ويحب الله ورسوله " والمراد : أن النبي صلى الله عليه وسلم شك في إيمانه حتى إنه سأل امرأته : هل يقوم في بيته بواجبات الإسلام ؟ فأجابته بصيغة التأكيد التي يجاب بها من أظهر شكه ، وفيه عبرة لمنافقي هذا الزمان الذين يخلصون الخدمة ، ويسدون النصيحة إلى أعداء ملتهم وأوطانهم فيما يمكن لهم السلطان في بلادهم ، والسيادة على أمتهم .
[ ص: 534 ] ولينظر المعتبر كيف عاقب أبو لبابة نفسه توبة إلى الله تعالى " شد نفسه على سارية من المسجد وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي - فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه ثم تاب الله عليه فقيل له : قد تيب عليك . فقال : والله لا أحل نفسي ، حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني ، فجاءه فحله بيده " وغزوة بني قريظة كانت بعد غزوة بدر التي نزلت فيها سورة الأنفال بسنين ، فيحتمل أن يكون المراد بنزول الآية في أبي لبابة أنها تتناول فعلته - وهذا التعبير يكثر مثله عنهم فيما يسمونه أسباب النزول ، كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره . ومن ذلك قول : نزلت هذه الآية في قتل المغيرة بن شعبة عثمان رضي الله عنه ويحتمل أن تكون الآية نزلت بعد نزول السورة فألحقت بها بأمر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم .
ومهما يكن سبب النزول فالآية عامة تشتمل كل خيانة ، ولذلك فسر خيانة الله بترك فرائضه وارتكاب معصيته ، والأمانة بكل ما ائتمن الله عليه العباد بألا ينقصها . رواه عنه ابن عباس ابن جرير وابن المنذر . وابن أبي حاتم
تدل على معنى الإخلاف والخيبة بنقض ما كان يرجى ويؤمل من الخائن ، أو نقص شيء منه ينافي حصوله وتحققه . ومنه : خانه سيفه ، إذا نبا عن الضريبة . وخانته رجلاه إذا لم يقدر على المشي ، وخان الرشاء الدلو إذا انقطع . ومن معنى النقص أو الانتقاص في المادة قوله تعالى : والخيانة في أصل اللغة علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ( 2 : 187 ) أي تنقصونها بعض ما أحل لها من اللذات ، ومثله التخون ، ويفترقان في معنى الصفة ، قال في الأساس : وتخون فلان حقي إذا تنقصه كأنه خانه شيئا فشيئا ، وكل ما غيرك عن حالك فقد تخونك . قال الزمخشري لبيد .
تخونها نزولي وارتحالي
اهـ . وقال في تفسير الآية من الكشاف وتبعه غيره : معنى الخون النقص ، كما أن معنى الوفاء التمام ، ومنه تخونه إذا تنقصه ، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء; لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه اهـ . وما قلنا أولا أعم من هذا وأشمل لما ورد من الاستعمال في كلام الله وكلام العرب . وقال الراغب : الخيانة والنفاق واحد إلا أن الخيانة تقال اعتبارا بالعهد والأمانة ، والنفاق يقال اعتبارا بالدين ، ثم يتداخلان إلى آخر ما قاله ، وهو يدخل في عموم ما قلناه ، ولا يصح كونه حدا تاما .والمعنى ياأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله تعالى بتعطيل فرائضه أو تعدي حدوده ، وانتهاك محارمه التي بينها لكم في كتابه ( والرسول ) بالرغبة عن بيانه لكتاب الله تعالى إلى أهوائكم ، أو آراء مشايخكم أو آبائكم ، أو المخالفة عن أمره إلى أوامر أمرائكم ، وترك سنته إلى سنة أوليائكم ، بناء على زعمكم أنهم أعلم بمراد الله ورسوله منكم وتخونوا أماناتكم أي [ ص: 535 ] ولا تخونوا أماناتكم فيما بينكم وبين أولياء أموركم من الشئون السياسية ولا سيما الحربية ، وفيما بينكم بعضكم مع بعض من المعاملات المالية وغيرها حتى الاجتماعية والأدبية ، فقد ورد في الحديث المجالس بالأمانة رواه الخطيب من حديث علي وحسنوه وأبو داود عن جابر بزيادة " أيضا إلا ثلاثة مجالس : سفك دم حرام ، أو فرج حرام ، أو اقتطاع مال بغير حق " " ورواه " إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت فهو أمانة أبو يعلى عن أنس ، وأشار في الجامع الصغير إلى صحته . خيانة محرمة ، ويكفي في العلم بكونه سرا القرينة القولية كقول محدثك : هل يسمعنا أحد ؟ أو للفعلية كالالتفات لرؤية من عساه يجيء . وآكد أمانات السر وأحقها بالحفظ ما يكون بين الزوجين . فإفشاء السر ، والأمانة من صفات المؤمنين ، وقال الخيانة من صفات المنافقين : " قلما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال : أنس بن مالك رواه لا إيمان لمن لا عهد له ، ولا دين لمن لا عهد له " أحمد في صحيحه . وروى الشيخان وغيرهما عن وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة زاد آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان مسلم " " وقد ورد في الأحاديث إطلاق الأمانة على الطاعة والعبادة والوديعة والثقة والأمان ، وليس المراد بهذا الحصر ، بل وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ، وكل حق مادي أو معنوي يجب عليك أداؤه إلى أهله فهو أمانة . قال الله تعالى في سورة البقرة : كل ما يجب حفظه فهو أمانة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ( 2 : 283 ) وقال في سورة النساء : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ( 4 : 58 ) .
وقد أوردنا في تفسير آية النساء هذه مباحث نفيسة في الأمانات والعدل ، منها ( المسألة الثالثة ) في أنواع الأمانة ( والمسألة السادسة ) في حكمة تأكيد الأمر بالأمانة . وأوردنا في هذه ما قاله حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني في بيان كون ، التي قام عليها بناء المدنية وبها حفظ العمران ، وإصلاح حال الأمة ، ولا بقاء لدولة بدونها; لأن عليها مدار الثقة في جميع المعاملات . وناهيك بما عظم الله من أمر الأمانة في قوله : الأمانة من الصفات الدينية إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ( 33 : 72 ) .
وأما قوله : وأنتم تعلمون فمعناه: والحال أنكم تعلمون مفاسد الخيانة ، وتحريم الله تعالى إياها ، وسوء عاقبة تلك المفاسد في الدنيا والآخرة ، أو تعلمون أن ما فصلتموه خيانة لظهوره ، وأما ما خفي عنكم حكمه فالجهل له عذر إذا لم يكن مما علم من الدين بالضرورة أو مما يعلم [ ص: 536 ] ببداهة العقل ، أو استفتاء القلب ، كفعلة أبي لبابة التي كانت هفوة سببها الحرص على المال والولد ; ولذلك فطن لها قبل أن يبرح موقفه رضي الله عنه ولما كان حب الأموال والأولاد مزلة في الخيانة أعلمنا به عقب النهي عنها فقال : واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة الفتنة: هي الاختبار والامتحان بما يشق على النفس فعله أو تركه أو قبوله أو إنكاره ، فتكون في الاعتقاد والأقوال والأفعال والأشياء ، يمتحن الله المؤمنين والكافرين ، والصادقين والمنافقين ، ويحاسبهم ويجزيهم بما يترتب على فتنتهم من اتباع الحق أو الباطل ، وعمل الخير أو الشر ، وقد تقدم الكلام في الفتنة مرارا من وجوه . وفتنة الأموال والأولاد عظيمة لا تخفى على ذي فهم ، إلا أن الأفهام تتفاوت في وجوهها وطرقها ، فأموال الإنسان عليها مدار معيشته ، وتحصيل رغائبه وشهواته ، ودفع كثير من المكاره عنه ، فهو يتكلف في كسبها المشاق ، ويركب الصعاب ، ويكلفه الشرع فيها التزام الحلال ، واجتناب الحرام ، ويرغبه في القصد والاعتدال ، ثم إنه يتكلف العناء في حفظها ، وتتنازعه الأهواء المتناوحة في إنفاقها ، فالشرع يفرض عليه فيها حقوقا مقدرة وغير مقدرة ، ومعينة وغير معينة ، ومحصورة وغير محصورة ، كالزكاة ونفقات الأزواج والأولاد وغيرهم ، وكفارات بعض الذنوب المعينة ، من عتق وصدقة ونسك وغير ذلك . ويندب له نفقات أخرى للمصالح العامة والخاصة تكفر الذنوب غير المعينة ، ويترتب عليه شيء عظيم من الأجر والثواب . والضابط لجميع أنواع البذل من صفات النفس : السماحة والسخاء ، وهما من أركان الفضائل ، ولجميع أنواع الإمساك : البخل ، وهو من أمهات الرذائل ، ولكل منهما درجات ودركات .
وأما الأولاد فهم كما يقول الأدباء : ثمرة الفؤاد وأفلاذ الأكباد ، وحبهم كما قال الأستاذ الإمام : ضرب من الجنون يلقيه الفاطر الحكيم في قلوب الأمهات والآباء ، يحملها على بذل كل ما يستطاع بذله في سبيلهم من مال وصحة وراحة وغير ذلك ، بل روى أبو يعلى من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى سيد الحكماء وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم فإن كان سنده ضعيفا كما قالوا فمتنه صحيح ، فحب الولد قد يحمل الوالدين على اقتراف الآثام في سبيل تربيتهم ، والإنفاق عليهم ، وتأثيل الثروة لهم : يحملهما ذلك على الجبن عند الحاجة إلى الدفاع عن الحق أو الحقيقة ، أو الملة والأمة ، وعلى البخل بالزكاة والنفقات المفروضة ، والحقوق الثابتة ، دع صدقات التطوع والضيافة ، كما يحملهما الحزن على من يموت منهم على السخط على الرب تعالى والاعتراض عليه ، وغير ذلك من المعاصي كنوح الأمهات وتمزيق ثيابهن ولطم وجوههن ، ففتنة الأولاد لها جهات كثيرة ، فهي أكبر من فتنة الأموال ، وأكثر تكاليف مالية ونفسية وبدنية . فالرجل يكسب الحرام ، ويأكل أموال الناس بالباطل; لأجل أولاده كما يفعل ذلك لكبائر شهواته ، فإذا قلت [ ص: 537 ] شهواته في الكبر فصار يكفيه القليل من المال ، يقوى في نفسه الحرص على شهوات أولاده ، وما يكفي الواحد لا يكفي الآحاد ، وفتنة الأموال قد تكون جزءا من فتنة الأولاد ، فتقديمها وتأخير فتنة الأولاد من باب الانتقال من الأدنى إلى الأعلى . الولد ثمرة القلب وإنه مجبنة مبخلة محزنة
فالواجب على المؤمن اتقاء خطر الفتنة الأولى بكسب المال من الحلال ، وإنفاقه في سبيل الله من البر والإحسان ، واتقاء الحرام من الكسب والإنفاق ، واتقاء خطر الفتنة الثانية من جهة ما يتعلق منها بالمال وغيره مما يشير إليه الحديث ، وبما أوجب الله على الوالدين من حسن تربية الأولاد على الدين والفضائل ، وتجنيبهم أسباب المعاصي والرذائل ، قال الله تعالى : ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا ( 66 : 6 ) .
وقد عطف على هذا التحذير قوله : وأن الله عنده أجر عظيم لتذكير المؤمنين بما يعينهم على ما يجب عليهم من اتقاء الفتنتين ، وهو إيثار ما عند الله - عز وجل - من الأجر العظيم لمن راعى أحكام دينه وشرعه في الأموال والأولاد ، ووقف عند حدوده ، وتفضيله على كل ما عساه يفوته في الدنيا من التمتع بهما ، لعلهم يتقون مثل هفوة أبي لبابة حين حذر أعداء الله ورسوله من فتح حصنهم ، والنزول على حكم ، لما كان له من الاعتماد عليهم في حفظ ماله وولده ، على أن للمؤمن الصادق حسن قدوة سعد بن معاذ بأبي لبابة في توبته النصوح ، إذ ألم به ضعف فوقع في مثل هفوته أو ما دونها من خيانة ، وأين مثل أبي لبابة رضي الله عنه في ذلك ؟ ونحن نرى كثيرا ممن يدعون الإيمان يخونون الله ورسوله في انتهاك حرمات دينهم ، ويخونون أمتهم ودولتهم بثمن قليل أو كثير من المال يرجونه أو ينالونه من عدوهم - وقد يكون من مال أمتهم وغنائم وطنهم - أو خوفا على مالهم وولدهم من سلطانه قبل أن يستقر له السلطان ، وقد أسقطت الخيانة دولة كانت أعظم دول الأرض قوة وبأسا بارتكاب رجالها الرشوة من أهلها ، ومن الأجانب حتى مسخت فصارت دويلة صغيرة فقيرة ، ولكن الخلف المغرور لذلك السلف المخرب يدعون أنها إنما أسقطها تعاليم الإسلام القويمة ; لأنها صارت قديمة ، ولو أنهم أقاموا واجبا واحدا أو أدبا واحدا من آداب القرآن ، لكان كافيا لوقايتها من الزوال .