وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين هاتان الآيتان وما بعدهما تذكير للنبي صلى الله عليه وسلم بما كان من حاله وحال قومه معه في مكة كما سبق الإشارة إلى ذلك ، وقد حسن هذا التذكير بذلك في أول العهد بنصره تعالى له على أولئك الجاحدين المعاندين ، الفاتنين المفتونين ، الصادين عن سبيل الله تعالى وعن اتباع رسوله بالقوة القاهرة .
قال عز وجل : وإذ يمكر بك الذين كفروا أي: واذكر أيها الرسول في نفسك ، ما نقصه في الكتاب على المؤمنين والكافرين في عهدك ومن بعدك ; لأنه حجة لك على صدق دعوتك ، ووعد ربك بنصرك . اذكر ذلك الزمن الغريب الذي يمكر بك فيه الذين كفروا من قومك في وطنك . بما يدبرون فيما بينهم بالسر من وسائل الإيقاع بك ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك فأما الإثبات فالمراد به الشد بالوثاق والإرهاق بالقيد ، والحبس المانع من لقاء الناس ودعوتهم إلى الإسلام ، وأما القتل فالمكر فيه طريقته وصفته الممكنة التي لا يكون ضررها فيهم عظيما ، وهو ما بينته الرواية الآتية عنهم ، وأما الإخراج فهو النفي من الوطن ، [ ص: 541 ] وقد روى كبار مصنفي التفسير المأثور " أن أبا طالب قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما يأتمر به قومك ؟ قال : يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني . قال : من حدثك بهذا ؟ قال ربي . قال : نعم الرب ربك ، فاستوص به خيرا . قال : أنا أستوصي به ؟ بل هو يستوصي بي " فنزلت : وإذ يمكر بك الذين كفروا ولهذا قال : إن الآية مكية ، وهو قول ضعيف كما تقدم في الكلام على نزول السورة في أول تفسيرها ، والصحيح أن التشاور في الأمور الثلاثة بدار الندوة كان عقب موت ابن جريج أبي طالب وخديجة رضي الله عنها ، وكان الخروج للهجرة في الليلة التي أجمعوا فيها أمرهم على قتله صلى الله عليه وسلم كما يأتي بيانه ، ويجوز أن يكونوا قد تحدثوا به قبل إجماعه ، وإرادة الشروع فيه الذي وقع بعد موت أبي طالب فبلغه فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه .
وأما قوله تعالى : ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين فهو بيان لحالتهم العامة الدائمة في معاملته صلى الله عليه وسلم هو ومن اتبعه من المؤمنين بعد التذكير بشر ما كان منها في مكة ، ولذلك لم يقل " ويمكرون بك " أي: وهكذا دأبهم معك ، ومع من اتبعك من المؤمنين ، يمكرون بكم ويمكر الله لكم بهم كما فعل من قبل إذ أحبط مكرهم ، وأخرج رسوله من بينهم إلى حيث مهد له في دار الهجرة ووطن السلطان والقوة ، والله خير الماكرين ; لأن مكره نصر للحق ، وإعزاز لأهله ، وخذل للباطل ، وإذلال لأهله ، وإقامة للسنن ، وإتمام للحكم ، وقد بينا حقيقة المكر في اللغة في تفسير قوله تعالى : ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ( 3 : 54 ) وفي تفسير : أفأمنوا مكر الله ( 7 : 99 ) الآية وخلاصته: أن المكر هو التدبير الخفي; لإيصال المكروه إلى الممكور به من حيث لا يحتسب ، ووقاية الممكور له من المكروه كذلك . والغالب في عادات البشر أن يكون المكر فيما يسوء ويذم من الكذب والحيل ، ولذلك تأول المفسرون ما أسند إلى الله تعالى منه ، فقالوا في مثل هاتين الآيتين - آية الأنفال وآية آل عمران - إنه أسند إلى الله تعالى من باب المشاكلة بتسمية تخييب سعيهم في مكرهم أو مجازاتهم عليه باسمه ، والحق أن المكر منه الخير والشر ، والحسن والسيئ - كما قال تعالى : استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ( 35 : 43 ) ومن الدعاء المرفوع " رواه " وامكر لي ولا تمكر علي أبو داود ، ويراجع تفسير آية آل عمران من الجزء الثالث ، وتفسير آية الأعراف من الجزء التاسع .
وأما قصة ، وظهور الإسلام ، وخذلان الشرك ، ففيها روايات أوفاها رواية مكرهم الذي ترتب عليه هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم في سيرته ، ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر في تفاسيرهم ، وابن أبي حاتم وأبو نعيم والبيهقي في دلائل النبوة عن رضي الله عنه بألفاظ متقاربة ، ننقل ما أورد ابن عباس السيوطي في الدر المنثور منها عنه قال : " وإن نفرا من قريش ومن أشراف كل قبيلة اجتمعوا; ليدخلوا دار الندوة واعترضهم [ ص: 542 ] إبليس في صورة شيخ جليل ، فلما رأوه قالوا : من أنت ؟ قال : شيخ من أهل نجد سمعت بما اجتمعتم له فأردت أن أحضركم ، ولن يعدمكم مني رأي ونصح ، قالوا : أجل فادخل فدخل معهم فقال : انظروا في شأن هذا الرجل فوالله ليوشكن أن يؤاتيكم في أمركم بأمره ، فقال قائل : احبسوه في وثاق ثم تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء ، زهير ونابغة ، فإنما هو كأحدهم ، فقال عدو الله الشيخ النجدي : لا والله ما هذا لكم برأي ، والله ليخرجن رائد من محبسه لأصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم ، ثم يمنعوه منكم ، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم فانظرا في غير هذا الرأي ، فقال قائل : فأخرجوه من بين أظهركم فاستريحوا منه فإنه إذا خرج لم يضركم ما صنع وأين وقع ، وإذا غاب عنكم أذاه استرحتم منه ، فإنه إذا خرج لم يضركم ما صنع ، وكان أمره في غيركم ، فقال الشيخ النجدي : لا والله ما هذا لكم برأي ، ألم تروا حلاوة قوله ، وطلاقة لسانه ، وأخذه للقلوب بما تسمع من حديثه ، والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب لتجتمعن إليه ثم ليسيرن إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ، ويقتل أشرافكم ، قالوا : صدق والله فانظروا رأيا غير هذا ، فقال أبو جهل : والله لأشيرن عليكم برأي لا أرى غيره ، قالوا : وما هذا ؟ قال : نأخذ من كل قبيلة غلاما وسطا شابا نهدا ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما ثم يضربونه به ضربة رجل واحد ، فإذا قتلتموه تفرق دمه في القبائل كلها ، فلا أظن هذا الحي من بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلهم ، وأنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا ، وقطعنا عنا أذاه . فقال الشيخ النجدي : هذا والله هو الرأي ، القول ما قال الفتى لا أرى غيره . وتفرقوا على ذلك وهم مجتمعون له ، فأتى جبريل - عليه السلام - النبي صلى الله عليه وسلم فأمره ألا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه وأخبره بمكر القوم ، فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة ، وأذن الله عند ذلك في الخروج ، وأمرهم بالهجرة ، وافترض عليهم القتال فأنزل الله : أذن للذين يقاتلون ( 22 : 39 ) الآية : فكانت هاتان الآيتان أول ما أنزل في الحرب ، وأنزل بعد قدومه المدينة ، يذكره نعمته عليه وإذ يمكر بك الذين كفروا الآية اهـ . وسائر خبر الهجرة معروف .