[ ص: 547 ] وما كانوا أولياءه أي مستحقين الولاية عليه لشركهم ومفاسدهم فيه ، كطوافهم فيه عراة الأجسام رجالا ونساء ، ولما أجاب الله دعاء أبيهم إبراهيم بأن يجعل للناس أئمة من ذريته كما جعله إماما لهم ، أجابه الله تعالى بأن عهده بالإمامة لا ينال الظالمين ، وأي ظلم أعظم شناعة وفسادا من الشرك ؟ إن الشرك لظلم عظيم ( 31 : 13 ) وكانوا يقولون نحن ولاة البيت الحرام فنصد من نشاء ، وندخل من نشاء فقال تعالى : إن أولياؤه إلا المتقون للشرك وسائر الفساد والظلم وهم المسلمون الصادقون ، وقد وجدوا . وهذا غاية التأكيد ، فإنه بعد أن نفى ولاية المشركين عن بيت الله تعالى نفى كل ولاية على الإطلاق ، واستثنى منها ولاية المتقين من المسلمين ، وهم عدو لهم وخيارهم لا من لا فضل لهم في أنفسهم ، وإنما يدعون حق الولاية بأنسابهم . وقيل : إن الضمير في الموضعين لله تعالى ، أي ولم لا يعذب الله هؤلاء المشركين بعد انتفاء سببي منع العذاب ، والحال أنهم ليسوا أولياءه وأنصار دينه الذين لا يعذبهم ؟ وكأن سائلا يسأل : من أولياؤه تعالى إذا ؟ فأجيب بصيغة الحصر بالإثبات بعد النفي : ما أولياؤه إلا المتقون ، أي الذين صارت التقوى العامة صفة راسخة فيهم ، وتقدم ما يدل عليه هذا الإطلاق فيها من التفصيل في تفسير آية إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا وما هي ببعيد . والقول الأول أقرب في هذا السياق ، والثاني أخص ويؤيده في حد ذاته قوله تعالى : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون ( 10 : 62 ، 63 ) ويجوز الجمع بينهما ولكن أكثرهم لا يعلمون أنه لا حق لهم في الولاية على هذا البيت ولا سيما بعد ظهور الإسلام ، ووجود أولياء الله الموحدين الصالحين ، وكانوا يدعون هذا الحق بنسبهم الإبراهيمي ، وقد أبطله الظلم ، وبقوتهم في قومهم ، وإن كانت إلى ضعف أو لا يعلمون أنهم ليسوا أولياء الله - عز وجل - ، ولا أن أولياءه ليسوا إلا المتقين ، فهم الآمنون من عذابه بمقتضى عدله في خلقه ، والحقيقون بالولاية على بيته ، على ما أعد لهم من الثواب والنعيم بفضله ، كما صرحت به آياته في كتابه ، وقد أسند هذا الجهل إلى أكثرهم إذ كان فيهم من لا يجهل سوء حالهم في جاهليتهم وضلالهم في شركهم ، وكونه لا يرضي الله تعالى ، فإن امتنع رؤساؤهم من الإسلام كبرا وعنادا ، فقد كان فيهم من يكتم إيمانه خوفا من الفتنة ، ويتربص الفرصة لإظهاره بالاستعداد للهجرة ، ومنهم المستعدون له بسلامة الفطرة ، وللتفاوت [ ص: 548 ] في الاستعداد كان يظهر المرة بعد المرة . والناس يطلقون الحكم في مثل الحال التي كانوا عليها على الجميع ، ويقولون : إن القليل لا حكم له إن وجد فكيف ونحن لا نعلم بوجوده ؟ ولكن الله تعالى لا يخفى عليه شيء ، ولا يقول إلا الحق ، ومثل هذا الحكم على أكثر الأمم والشعوب أو استثناء القليل منهم بعد إطلاق الحكم عليهم ، هو من دقائق القرآن في تحرير الحق ، وهو مكرر في مواضع من عدة سور ، وسبق تنبيهنا لهذا في تفسير ما تقدم منها .
هذا وإن جماهير المسلمين في أكثر بلادهم صاروا في هذا العصر أجهل من مشركي قريش في ذلك العصر بمعنى ولاية الله وأوليائه - سواء في ذلك ولاية الحكم والسلطان ، وهي الإمامة العامة ، وولاية التقوى والصلاح ، وهي الإمامة الشخصية الخاصة ، وجهلهم بهذه أعم وأعمق ، فالولاية عندهم تشمل المجانين والمجاذيب الذين ترتع الحشرات في أجسادهم النجسة ، وثيابهم القذرة ، ويسيل اللعاب من أشداقهم الشرهة ، وتشمل أصحاب الدجل والخرافات ، والدعاوى الباطلة للكرامات ، والشرك بالله بدعاء الأموات ، ومن أدلتهم عليها ما يتخيلون من رؤى الأنبياء والأقطاب في المنام ، وما يزعمون من تلقيهم عنهم ما تنبذه شريعة المصطفى - عليه السلام - ، حتى صار ما هم عليه دين شرك منافيا لدين الإسلام ، فعليك بمطالعة كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ، لشيخ الإسلام ابن تيمية ، ومن أولى منه بمثل هذا الفرقان ؟ .
ثم عطف على الحكم عليهم ما هو حجة على صحته ، وهو بيان حالهم في أفضل ما بني البيت لأجله وهو الصلاة ، إذ كان سوء حالهم في الطواف عراة معروفا لا يجهله أحد ، أو في العبادة الجامعة للطواف والصلاة فقال : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية من المعلوم أن البيت إذا أطلق معرفا انصرف عندهم إلى بيت الله المعروف بالكعبة والبيت الحرام ، على القاعدة اللغوية في انصراف مثله إلى الأكمل في جنسه كالنجم للثريا ، وهي أعظم النجوم هداية . روي عن رضي الله عنهما أنه قال : كانت ابن عباس قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق . وقال : المكاء الصفير ، والتصدية التصفيق ، وقال : كان أحدهم يضع يده على الأخرى ويصفر . وروي عنه أن الرجال والنساء منهم كانوا يطوفون عراة مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون ، وروى الطستي فيما روى من أسئلة نافع بن الأزرق له أنه قال له : أخبرني عن قوله - عز وجل - : إلا مكاء وتصدية قال : المكاء: صوت القنبرة ، والتصدية صوت العصافير وهو التصفيق ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة وهو بمكة كان يصلي بين الحجر ( الأسود ) والركن اليماني - يعني أنه يتوجه إلى الشمال; ليجمع بين الكعبة وبيت المقدس في الاستقبال - فيجيء رجلان من بني سهم يقوم أحدهما عن يمينه ، والآخر عن شماله ، ويصيح أحدهما كما يصيح [ ص: 549 ] المكاء ، والآخر يصفق بيديه تصدية العصافير; ليفسدا عليه صلاته . قال ( نافع ) : وهل تعرف العرب ذلك ؟ : قال : نعم أما سمعت يقول : حسان بن ثابت
تقوم إلى الصلاة إذا دعينا وهمتك التصدي والمكاء
وفي بعض كتب اللغة أن المكاء طائر أبيض ، وعن كانت سعيد بن جبير : قريش يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف يستهزئون ويصفرون فنزلت : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية وقال الراغب : مكا الطير يمكو مكاء : صفر . وذكر أن المكاء في الآية جار مجرى مكاء الطير في قلة الغناء . قال : والمكاء ( بالضم والتشديد ) طائر ، ومكت استه صوتت اهـ . ويحتمل أن هذه الفعلة القبيحة كانت تقع منهم عمدا أيضا ، فذكر اللفظ المشترك; ليدل عليها ، ولم يذكر اللفظ الذي وضع لها وحدها نزاهة ، وقال في التصدية : كل صوت يجري مجرى الصدى في أن لا غناء فيه اهـ . وجملة القول : أن صلاتهم وطوافهم كان من قبيل اللهو واللعب سواء عارضوا بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في طوافه وخشوع صلاته وحسن تلاوته أم لا .قال تعالى : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون فسر الضحاك العذاب هنا بما كان من قتل المؤمنين لبعض كبرائهم وأسرهم لآخرين منهم يوم بدر أي وانهزام الباقين مكسورين مدحورين . وفيه إشارة إلى قولهم : أو ائتنا بعذاب أليم كأنه يقول : فذوقوا العذاب الذي طلبتموه ، وما كان لكم أن تستعجلوه .