ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم
فإذا كانت الخلائق النفسية ، والأعمال السرية ، لا تخفى على الناس مهما يكن من محاولة صاحبها لإخفائها ، فماذا يقال في الأعمال التي هي مقتضى العقائد والأخلاق وما انطبعت عليه النفس من الملكات ، ومرنت عليه من العادات ؟ نرى المؤمنين الصادقين يخفون بعض أعمال البر التي يستحب إخفاؤها كالصدقة على الفقير المتعفف سترا عليه ، ومبالغة في الإخلاص لله تعالى الذي ينافيه الرياء وحب السمعة ولكنهم لا يلبثون أن يشتهروا بها ، ونرى بعض المنافقين يخفون بعض أعمال النفاق خوفا من الناس لا من الله ، ولكنهم لا يلبثون أن يفتضحوا بها . ومن أمثال العوام : إن الذي يختفي هو الذي لا يقع .
والآية تهدينا إلى أن مرضاة جماعة المؤمنين القائمين بحقوق الإيمان ، المقررة صفاتهم في القرآن تلي مرضاة الله ورسوله ، وأنهم لا يجتمعون على ضلالة . وفي معناه حديث أنس في الصحيحين قال : - رضي الله عنه - ما وجبت ؟ قال : ( ( هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة ، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار ، ( ( أنتم شهداء الله في الأرض عمر بن الخطاب ) ) وفي لفظ مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ( وجبت ) ) ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال : ( ( وجبت ) ) فقال مسلم تكرار ( ( وجبت ) ) ثلاث مرات في الموضعين وكذا تكرار ( ( أنتم شهداء الله في الأرض ) ) وفي معناه حديث مرفوعا : ( ( ابن عمر محمد - على ضلالة ، ويد الله على الجماعة ومن شذ شذ إلى النار ) ) أخرجه إن الله لا يجمع أمتي - أو قال : أمة الترمذي من طريق سليمان المديني وقال : هذا حديث غريب من هذا الوجه ، وسليمان المديني عندي هو سليمان بن سفيان انتهى . أقول : وهو ضعيف منكر الحديث باتفاقهم ويعزى الحديث إلى بلفظ ( ( الطبراني ) ) والعلماء يستدلون به على لا تجتمع أمتي على ضلالة لصحة معناه بموافقته للآيات والصحاح من الأخبار ، وإنما يدل على إجماع الأمة ، أمة الإجابة وأهل الاستقامة ، لا على الإجماع المصطلح عليه عند الأصوليين وفي معناه قول حجية الإجماع ( ( ابن عباس ) ) رواه عنه ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن أحمد في السنة لا في المسند ومن الناس من يظن أنه حديث مرفوع ، ويستدل به الجهال حتى من المعممين أدعياء العلم على استحسان البدع الفاشية حتى في العقائد الثابتة كبدع القبور التي كان يلعن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعليها في مرض موته ، من بناء المساجد عليها ، والصلاة إليها ، وإيقاد السرج [ ص: 29 ] والمصابيح عندها ، بل ما هو شر من ذلك وهو عبادتها بالطواف حولها ، ودعاء أصحابها والنذر لهم ، والاستغاثة بهم ، حتى في الشدائد وهو ما لم يكن يفعله عباد الأصنام في مثل هذه الحال . بل كانوا فيه يخلصون الدعاء لله ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .
بعد هذا الإرشاد إلى ما يقتضي الإحسان في الأعمال من مراقبة الله وتحري مرضاته ومرضاة رسوله وجماعة المؤمنين والخير لعباده بها - ذكرهم تعالى بما يقتضي ذلك من جزاء الآخرة عليها ، فقال : ( وستردون إلى عالم الغيب والشهادة ) بالبعث بعد الموت ( فينبئكم بما كنتم تعملون ) في الدنيا مما كان مشهودا للناس منه ، وما كان غائبا عن علمهم منه ومن نياتكم فيه ، ينبئكم به عند الحساب ، وما يترتب عليه من الجزاء بحسن الثواب ، أو سوء العذاب .