( فيه رجال يحبون أن يتطهروا ) هذه جملة وصف بها المسجد الذي أسس على التقوى تؤكد ترجيح القيام مع أهله المطهرين في مقابل أهل مسجد الضرار وهم رجس .
والمعنى : فيه رجال يعمرونه بالاعتكاف وإقامة الصلاة وذكر الله وتسبيحه فيه بالغدو والآصال ، يحبون أن يتطهروا بذلك من كل ما يعلق بأنفسهم من درن الآثام ، أو التقصير في إقامة دعائم الإسلام ، كما تطهر المتخلفون منهم عن غزوة تبوك بالتوبة والصدقات ، ومن لوازم عمارته المعنوية والعكوف فيه : طهارة الثوب والبدن الحسية ، وطهارة الوضوء [ ص: 35 ] والغسل الحكمية ، فالتطهر : صيغة مبالغة تشمل الطهارتين النفسية والبدنية ، ووردت الروايات بكل منهما ، ولكل منهما ، ولكل من الاستعمالين موضع من التنزيل ، والجمع بينهما هو الأولى .
( والله يحب المطهرين ) أي المبالغين في الطهارة الروحية والجسدية ، وإنما يبالغون فيها إذا أحبوها ، وحينئذ تكمل إنسانيتهم المؤلفة من الروح والجسد . ولا يطيق نجاسة البدن وقذارته إلا ناقص الفطرة والأدب ، وأنقص منه من يطيق خبث النفس بالإصرار على المعاصي والعادات القبيحة ، والتخلق بالأخلاق الذميمة . دع رجس المنافقين المرائين في الأعمال ، الأشحة الباخلين بالأموال . وأما حب الله المستحقين لحبه فهو من صفات كماله ; لأن العالم بتفاوت الأشياء في الحسن والقبح والكمال والنقص يكون من أفضل صفاته حب الجمال والكمال والحق والخير ، وبغض أضدادها وكراهتها ، وحبه اللائق بربوبيته منزه عن مشابهة حبنا ، كتنزه ذاته وسائر صفاته عن مشابهة ذواتنا وصفاتنا ، ولكن يظهر أثره في المحبوبين من عباده في أخلاقهم وأعمالهم ، ومعارفهم وآدابهم ، وأعلاه ما أشار إليه حديث القدسي ( ( البخاري ) ) إلخ . ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به
وقد قال الله تعالى معللا ما وعظ به نساء نبيه - صلى الله عليه وسلم - من أمره ونهيه لهن بما يليق بمكانتهن من رسوله : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) ( 33 : 33 ) .
وقد فسر بعض المفسرين محبته تعالى للمطهرين برضاه عنهم وإحسانه إليهم ، وهو تأويل فسر به اللفظ ببعض لوازمه ، فإن كان هربا من نظرية من قال من المتكلمين : إن محال ، لأنه انفعال نفسي يستحيل على ذي الجلال ، فيجب تفسيره بلازمه المذكور كما قال بعضهم في الرحمة وغيرها من الصفات - فهو هروب من مذهب السلف الحق ، ووقوع فيما فروا منه بالتأويل ، وهو تشبيه الله بخلقه . إذ يقال لهم : إن الرضا عاطفة نفسية كالحب ، والإحسان عمل بدني كبسط اليد بالبذل وهما يسندان إلى الناس فلا يصح أن يوصف بهما الخالق عز وجل ، لأنه تشبيه له بالخلق ، وكذا العلم والقدرة والمشيئة والكلام وغيرهما من صفات الذات ، فإن كلا منها وضعت في اللغات لمعانيها المعروفة في المخلوقات ككون العلم صور المعلومات المنتزعة منها في الذهن ، وهو بهذا المعنى محال على الله عز وجل وإذا كان الأمر كذلك فالحق أن يوصف تعالى بما وصف به نفسه على ظاهره بقيوده الثلاثة التي قررها السلف الصالح . أي بلا تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل . فعلمه تعالى انكشاف يليق به ، وحبه معنى نفسي يليق به إلخ . اتصاف الله تعالى بالحب
[ ص: 36 ] ذكر السيوطي في الدر المنثور عدة روايات حاصلها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل أهل قباء عن سبب ثناء الله تعالى عليهم بهذه الآية ، فأجابوه بأنهم يستنجون بالماء وفي بعضها أنهم يتبعون الحجارة بالماء . وذكر أن ابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم وغيرهم رووا عن قال حدثني طلحة بن نافع أبو أيوب وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم - وأنس بن مالك فيه رجال يحبون أن يتطهروا ) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ( ، فما طهوركم هذا ؟ قالوا : نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة قال : ( ( فهل مع ذلك غيره ؟ ) ) قالوا : إن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء قال : ( ( هو ذاك فعليكموه يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيرا في الطهور ) ) . أن هذه الآية نزلت (
أقول : هذا ثقة روى عنه الجماعة كلهم ، ولكن رواية طلحة بن نافع عنه مقرونة بغيره ، وهي أربعة أحاديث رواها عن البخاري جابر ، ولعله اقتصر عليها ، لقول شيخه : إنه لم يرو عن علي بن المديني جابر غيرها ، أي لم يصح عنه غيرها . وقال أبو حاتم : إنه لم يسمع من أبي أيوب ، ولكنه هنا صرح بالسماع منه فيما رواه من ذكر وغيرهم . وحديثه هذا على كل حال أقوى من أحاديث سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل مسجد قباء وجعله الثناء عليهم ، وهو في سؤال الأنصار ، والمسئولون منهم كلهم من سكان المدينة ، ويؤيده الأحاديث الصحيحة الناطقة بأن المسجد الذي أثنى الله عليه وعلى أهله هو مسجده فيها ، وقد قلنا : إنه لا مانع من إرادة كل منهما ، وهو أولى من القول بتعارضهما ، كما أن الروايات فيهما لا تنافي إرادة نوعي الطهارة كليهما ، ويؤيد إرادة الطهارة المعنوية قوله تعالى : ( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم ) هذا بيان مستأنف للفرق بين أهل المسجدين في مقاصدهما منهما : أهل مسجد الضرار الذي زادوا به رجسا إلى رجسهم ، وأهل مسجد التقوى وهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنصاره الذين يحبون أكمل الطهارة لظاهرهم وباطنهم ، فاستفادوا بذلك محبة الله لهم ، وورد بصيغة استفهام التقرير ، لما فيه من تنبيه الشعور وقوة التأثير ، والبنيان : مصدر كالعمران والغفران ويراد به المبني ، من دار أو مسجد وهو المتعين هنا . وتقدم آنفا معنى التأسيس ، والشفا : ( بالفتح والقصر ) الحرف والشفير للجرف والنهر وغيره .
والجرف ( بضمتين ) : جانب الوادي ونحوه الذي ينحفر أصله بما يجرفه السيل منه فيجتاح أسفله فيصير مائلا للسقوط ، والهار : الضعيف المتصدع المتداعي للسقوط وهذا التعبير يضرب مثلا لما كان في منتهى الضعف والإشراف على الزوال ، وهو من أبلغ الأمثال ، لمنتهى الوهي والانحلال .
[ ص: 37 ] المراد بالمثل هنا بيان ثبات الحق الذي هو دين الإسلام وقوته ودوامه ، وسعادة أهله به ، وذكره بأثره وثمرته في عمل أهله ، وجماعها التقوى ، وبجزائهم عليه وأعلاه رضوان الله تعالى ، وبيان ضعف الباطل واضمحلاله ، ووهيه وقرب زواله ، وخيبة صاحبه وسرعة انقطاع آماله ، وشر أهله المنافقين . وشر أعمالهم ما اتخذوه من مسجد الضرار للمفاسد الأربعة المبينة في الآية الأولى من هذا السياق .
وقد ذكر في وصف بنيان الفريق الأول وهم المؤمنون المشبه دون المشبه به لأنه المقصود بالذات ولم يذكر فيما قبله من عملهم إلا المبالغة في الطهارة . وذكر من وصف بنيان الفريق الثاني الهيئة المشبه بها دون المشبه . لأنه ذكر فيما قبل مقاصدهم منها كلها ، وهذا من دقائق إيجاز القرآن .
تقول في المعنى الجامع بين المشبه به في الفريقين : أفمن أسس بنيانه الذي يتخذه مأوى وموئلا له ، يقيه من فواعل الجو وعدوان كل حي ، وموطنا لراحته ، وهناء معيشته ، على أمتن أساس وأثبته ، وأقواه على مصابرة العواصف والسيول ، وصد الهوام والوحوش - هو خير بنيانا ، وراحة وأمانا ؟ أم من أسس بنيانه على أوهى القواعد وأقلها بقاء واستمساكا فهي عرضة للانهيار في كل لحظة من ليل أو نهار ؟
وأما معنى المشبه المقصود بالذات في كل منهما فيصور هكذا : أفمن كان مؤمنا صادقا يتقي الله في جميع أحواله ، ويبتغي رضوانه في أعماله بتزكية نفسه بها ونفع عياله : ( ) كما ورد في الخبر عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - أفمن كان كذلك خيرا عملا ، وأفضل عاقبة وأملا ، وممن نزل فيهم : ( والخلق كلهم عيال الله إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا ) ( 18 : 107 ) أم من هو منافق مرتاب ، مراء كذاب ، يبتغي بأفضل مظاهر أعماله الضرر والضرار ، وتقوية أعمال الكفر وموالاة الكفار ، وتفريق جماعة المؤمنين الأخيار ، والإرصاد لمساعدة من حارب الله ورسوله من الأشرار ، وما يكون من عاقبة ذلك في الدنيا من الفضيحة والعار ، والخزي والبوار ، وفي الآخرة من الانهيار في نار جهنم وبئس القرار ؟
وفي معنى هذا المثل : ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ) ( 13 : 17 ) الآية .
وخلاصة المثلين أن ، وأن الإيمان الصادق ، وما يلزمه من العمل الصالح هو المثمر الثابت ، وهذا المعنى يوافق قول علماء الكون : إنه لا يتنازع شيئان في الوجود إلا ويكون الغالب هو الأصلح منهما . ويسمون هذه السنة ( ناموس الانتخاب الطبيعي وبقاء الأمثل ) وسبق بيانه في هذا التفسير . النفاق وما يستلزمه من العمل الفاسد هو الباطل الزاهق
[ ص: 38 ] صدق الله العظيم ، فقد ثبت الله المؤمنين بالقول الثابت ، وهداهم بإيمانهم إلى العمل الصالح ، ففتحوا البلاد ، وأقاموا الحق والعدل في العباد ، وأهلك الله المنافقين فلم يكن لهم من أثر صالح في العالمين وهكذا كان وهكذا يكون ولكن المنافقين لا يفقهون ولا يعتبرون وشر النفاق وأضره نفاق العلماء للملوك والأمراء .
( والله لا يهدي القوم الظالمين ) أي مضت سنته في ارتباط العقائد والأخلاق بالأعمال بأن الظالم لا يكون مهتديا في أعماله إلى الحق والعدل ، فضلا عن الرحمة والفضل ، ولا أظلم في الناس من المنافق : كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين ( 3 : 86 ) .
( لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم ) الريبة : اسم من الريب ، وهو : ما تضطرب فيه النفس ، ويتردد الوهم ويسوء الظن ، فيكون صاحبه منه في شك وحيرة إن لم يكن مثاره الشك . قال قوم صالح عليه السلام له ، منكرين دعوته إياهم إلى عبادة الله وحده ( وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ) ( 11 :62 ) ولهذا الاستعمال أمثال في التنزيل ، وهو صريح في أن الشك مثار للريب ، وموقع فيه لا أنه عينه وقد يفسر به باعتبار لزومه وإيقاعه فيه . قال الشاعر :
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت وقد رابني منها الغداة سفورها
والظاهر أن ارتيابهم فيه كان منذ بنوه إلى أن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهدمه فهدم ، ذلك أنهم لسوء نيتهم في بنائه كانوا يخافون أن يطلع الله ورسوله على مقاصدهم السوأى فيه ، وكان ذلك شأن سائر إخوانهم كما تقدم في قوله تعالى : ( يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم ) ( 9 : 64 ) وذكرنا في تفسيرها قوله تعالى : ( يحسبون كل صيحة عليهم ) ( 63 : 4 ) ( راجع ج 10 ) وأجدر بهم أن يكونوا بعد هدمه أشد ارتيابا ، وأكثر اضطرابا ، بما يحذرون من عقابهم في الدنيا كما أنذرتهم هذه السورة مرارا ، وأن يستمر ذلك ملازما لهم ( إلا أن تقطع قلوبهم ) قرأ ابن عامر وحفص عن نافع وحمزة ( تقطع ) بفتح وتشديد الطاء من التقطع ، وقرأ الباقون بضم التاء من التقطيع ، أي إلا أن تقطع الريبة قلوبهم أفلاذا فتقطع بها وتكون جذاذا ، وقرأ يعقوب ( إلى ) بدل ( إلا ) وفسر ذلك بالموت والهلاك والحسرة والندم المقتضي للتوبة ، وقال وتبعه معتادو الأخذ عنه : لا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم لا يزول وسمه عن قلوبهم ، ولا يضمحل أثره ( الزمخشري إلا أن تقطع قلوبهم ) قطعا وتفرق أجزاء ، فحينئذ يسلون [ ص: 39 ] عنه ، وأما ما دامت سالمة مجتمعة ، فالريبة باقية فيها متمكنة فيجوز أن يكون ذكر التقطع تصويرا لحال زوال الريبة عنهم ، ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار . وقيل : معناه : إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم ، انتهى . ( والله عليم حكيم ) فحكم في أمرهم وبين من حالهم ما اقتضته الحكمة والعلم المحيط بكل شيء .