[ ص: 220 ] ( ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق )
يقول المؤلف محمد رشيد رضا : كتب تفسير هذه الآية الأستاذ الإمام باقتراح مني ، وأنا الذي وضعت الأرقام للسور والآيات في شواهد ما كتبه وهذا نصه : - تطلق الأمة في كتاب الله تعالى بمعنى الملة ، أي العقائد وأصول الشريعة كما في قوله تعالى في سورة الأنبياء : ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) ( 21 : 92 ) بعد ما ذكر من شأن جماعة الأنبياء صلوات الله عليهم ، وكما قال في سورة ( ( المؤمنون ) ) : ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ) ( 23 : 51 ، 52 ) رجح كثير من المفسرين أن المراد من الأمة في الآيتين الملة; أي : العقائد وأصول الشرائع; أي : أن كما قال : ( جميع الأنبياء ورسل الله على ملة واحدة ودين واحد إن الدين عند الله الإسلام ) ( 3 : 19 ) وقال كثير منهم : إن الأمة في هذه الآية بمعنى الجماعة كما هي في قوله تعالى : ( وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) ( 7 : 181 ) أي : جماعة ، وكما في قوله : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) ( 3 : 104 ) ولا تكون بمعنى الجماعة مطلقا ، وإنما هي بمعنى الجماعة الذين تربطهم رابطة اجتماع يعتبرون بها واحدا ، وتسوغ أن يطلق عليهم اسم واحد كاسم الأمة ، وتكون بمعنى السنين ، كما في قوله تعالى : ( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ) ( 11 : 8 ) وفي قوله : ( وادكر بعد أمة ) ( 12 : 45 ) وبمعنى الإمام الذي يقتدى به كما في قوله : ( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله ) ( 16 : 120 ) وبمعنى إحدى الأمم المعروفة كما في قوله : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) ( 3 : 110 ) وهذا المعنى الأخير لا يخرج عن معنى الجماعة على ما ذكرنا وإنما خصصه العرف تخصيصا .
[ ص: 221 ] وقد حمل جمهور من المفسرين لفظ الأمة في هذه الآية على الملة ، ثم اختلفوا فيم كانت الملة فقال جمهورهم : إنها ملة الهدى والدين القويم ، فيكون معنى الآية في رأيهم ( كان الناس أمة ) أي : ملة ( واحدة ) قيمة الدين صحيحة العقائد، جارية في أعمالها على أحكام الشرائع ( فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) ولما وجدوا أن المعنى لا يكون قويما; لأنه لا معنى لإرسال الرسل إلى الأمم الصالحة المهتدية ليحكموا بينهم فيما يختلفون فيه ، إذ لا يتأتى الاختلاف الذي يحتاج في رفعه إلى رسالة الرسل مع استقامة العمل والوقوف عند حدود الشرائع ، قالوا : لا بد من تقدير في العبارة، فيكون الكلام : كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، والقرينة على هذه القضية المقدرة قوله فيما بعد : ( ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) وأنت ترى أن هذا بمنزلة أن تقول : كان زيد عالما فبعثت إليه من يعلمه ما كان نسيه من معلوماته ، أو كان عاملا فأرسلت إليه من يعظه في العود إلى ما ترك من عمله ، وتقول : إن كلامي على تقدير كان عالما فنسي أو كان عاملا فترك العمل فبعثت إليه أو أرسلت إليه إلخ . وهو مما لا يقبله ذوق عربي ، فإذا كنت لا تراه لائقا بكلامك فكيف تجده لائقا بكلام الله أبلغ الكلام، وأولى قول يملك العقول والأفهام ؟ ! ومما استدلوا به على صحة قولهم : إن آدم عليه السلام كان نبيا وكان أولاده على ملته هادين إلى أن وقع التحاسد بين ولديه ، وكان من قتل أحدهما للآخر ما هو معروف ، وأن ، وإنما يعرض له ما ينحرف به عن الفطرة من تحكم الأهواء ، وإغواء الشهوات ، ورين الشبهات ونحو ذلك ، فلا ريب يكون للإنسان طور أول ، كان فيه خيرا عادلا واقفا عند الحق فيما يعتقد وما يعمل ، ثم يعرض عليه ما يعرض من الميل إلى الشر والقبيح من الأعمال ، ولكن هذه الأدلة لا تغير شيئا مما ذكرناه مختصا بتأليف الكلام ، على أنه قد عرض على أولاد الإنسان يولد على الفطرة السليمة والدين الحق آدم من بعده أطوار كثيرة بلغ بهم الجهل في بعضها أن كانوا ملة واحدة في الكفر وفساد الأعمال ، كما كانت الحال لعهد نوح وعهد إبراهيم من بعده ، والآية لم تحدد زمن ( ( كان الناس أمة واحدة ) ) ، وغاية ما في الأمر أن يكون النبيون المبعوثون مخصوصين بغير آدم أو نوح مثلا إذا حملت الأمة الواحدة على أمة الضلال ، وملة الفساد والاعتلال .
ولذلك ذهبت طائفة أخرى وفي مقدمتهم ابن عباس وعطاء والحسن إلى أن الأمة الواحدة أمة الضلال التي لا تهتدي بحق ولا تقف في أعمالها عند حد شريعة ، واحتجوا على قولهم بهذا التعقب في الآية فإنه جعل بعثة الرسل تابعة لوحدة الأمة ، ولا تكون كذلك حتى تكون تلك الوحدة قاضية بالحاجة إلى إرسالهم ليحكموا بينهم في الاختلاف الذي يقع فيهم بسبب الفساد في العقائد والذهاب مع الأهواء الضالة في الأعمال ، واعتداء بعضهم على بعض لذلك ، [ ص: 222 ] وانتهاكهم حرمة ما أمر الله برعاية حرمته ، فيجب أن تكون وحدة الأمة وحدة في الباطل حتى يرد الحق عليه فيزهقه ، وأما لو كانت الأمة واحدة في الهدى واتباع الحق فلا معنى لجعل بعثة الرسل مترتبة عليها كما هو ظاهر . ودفعوا ما يقال من أن آدم كان نبيا وكان من أولاده من بقي على شريعته فكيف يقال : إن الناس كانوا أمة واحدة على الباطل ؟ ( دفعوه ) بأن الحكم على الغالب فقد كان الناس لعهد نوح كفارا إلا القليل منهم ، ومن المعروف أنه يقال دار كفر لمن كان أغلب سكانها كفارا وإن كان فيها مسلمون ، وقد يجاب بما تقدم ذكره من تخصيص النبيين بما بعد آدم ونوح من إبراهيم ومن بعده ، ولكن المعنى كما تراه ليس مما تطمئن إليه النفس بعد النظر إلى آدم ورسالته ، ومن بقي من أولاده على ملته .
وقال أبو مسلم والقاضي أبو بكر : إن وحدة الأمة كانت فيما هو من مقتضى أصل الفطرة من الأخذ بما يرشد إليه العقل في الاعتقاد والعمل ، فكان الناس يهتدون بعقولهم والنظر المحض في الآيات الدالة على وجود الصانع ووجوب شكره ، ثم كانوا يميزون الحسن من القبيح ، والباطل من الصحيح بالنظر في المنافع والمضار ، أو الاتفاق مع ما يليق بالله على حسب ما يرشد إليه العقل أو ما لا يليق ، ولا ريب أن استسلام الناس إلى عقولهم بدون هداية إلهية مما يدعو إلى الاختلاف ، بل كثيرا ما حالت الأوهام دون الوصول إلى المراد من العقائد والأحكام ، فيكون الاختلاف مفهوما من معنى الوحدة على هذا التأويل وما سبقه; ولهذا رتب عليها بعثة الأنبياء ليحكموا بما أنزل الله فيما اختلف فيه الناس . وقد أورد القاضي على نفسه مسألة آدم ورسالته ، وأجاب عنها بأنه : من الجائز أن يكون آدم وأولاده قد بدأ أمرهم على سنة الفطرة فكانوا من أهل النظر ، ثم بعد أن كثر أولاده، وظهر أن هداية العقل وحده لا تكفي في حفظ سلامة القلوب، ولإصلاح الأعمال أرسله الله إليهم بهداية إلهية من عنده ، وإنه من المحتمل بل يكاد يكون من المحقق أنه طرأ على نسل آدم ما أنساهم شرعه فعادوا إلى استعمال عقولهم وحدها فعادت إليهم الوحدة فيما يؤدي إلى الاختلاف ، فبعث الله النبيين إلخ .
وتوقف قوم في معنى الأمة وقالوا : لا حاجة إلى البحث في أنها كانت أمة هداية أو أمة ضلال أو أمة عقل ، وهو قول غاية في الغرابة; لأنه ذهاب إلى ترك فهم الآية الكريمة، ومعنى ترتيب بعثة الأنبياء على وحدة الأمة ، اللهم إلا أن يكون القائل قد أراد ما سيأتي لنا ذكره إن شاء الله تعالى .
وأغرب من هذا القول قول بعض المفسرين ونقل عن مجاهد : أن الناس هم آدم وحده وأنه كان أمة يقتدى به ، ولا ندري ماذا يقول أصحاب هذا القول في تفسير بقية الآية ! نعوذ بالله من الخذلان .
[ ص: 223 ] ويزعم آخرون أن المراد من الآية : أهل الكتاب الذين آمنوا بموسى عليه السلام ، ثم اختلفوا بغيا بينهم فأرسلت إليهم الرسل بكتب تهذبهم ، كما أرسل داود بزبوره وعيسى بإنجيله ليردوهم إلى الحق فيما اختلفوا فيه ، وهو تخصيص للناس وللنبيين بما لا دليل عليه ألبتة كما لا يخفى .
قال ابن العادل نقلا عن القرطبي : ولفظة ( كان ) على هذه الأقوال على بابها من المضي، ويحتمل أن تكون للثبوت ، والمراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع وجهلهم بالحقائق ، لولا أن الله من عليهم بالرسل تفضلا منه فلا تختص بالمضي فقط ، بل يكون معناها كقوله : ( وكان الله غفورا رحيما ) ( 4 : 152 ) اهـ .
وقد قارب الصواب في هذا الاحتمال الثاني وهو الذي كان يذهب الذهن إليه لأول الأمر لولا ما يشتغل به من النظر في تلك الضروب من التأويل ، فتفرق به السبل ويكاد يضل السبيل ، ونحن ذاكرون لك إن شاء الله ما يجلي المعنى في الآية مقتفين أثر ابن العادل والقرطبي فيما قالاه في معنى ( كان ) وأنها للثبوت لا للمضي ، غير أنا نقدم لك ما جاء في كتاب الله من وصف الأمة بالواحدة ، والمعنى من ذلك الوصف في مواضعه المختلفة; ليكون في ذلك توضيح لما نقصد ، وسند لنا فيما إليه نعمد ، والله الموفق .
ورد وصف الأمة بالواحدة في قوله تعالى في سورة الأنبياء : ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون ) ( 21 : 92 ، 93 ) جاءت هذه الآية الكريمة ( إن هذه أمتكم ) إلخ ، بعد ذكر جمع من الأنبياء صلوات الله عليهم، ذكر ما كان من شأنهم مع قومهم ، والخطاب فيها للأنبياء كما يفسره قوله تعالى في سورة ( ( المؤمنون ) ) بعد ما ذكر من أحوال الأنبياء والمرسلين وما كان من أقوامهم معهم : ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ) ( 23 : 51 - 53 ) وقد جاء لفظ ( أمة ) بالنصب في الآيتين على الحال ، والخبر قد تم في قوله : ( وإن هذه أمتكم ) أي : هذا الجمع من الأنبياء والمرسلين أمتكم ، أي : جماعتكم حال أنها أمة واحدة ، أي : ليس جمعا تربطه الروابط البعيدة ، كما يقال أمة الهند على اختلاف مللها وتفرق كلمتها ، بل هي أمة تربطها رابطة قريبة هي رابطة الاهتداء بنور الله والدعوة إلى توحيده والقيام على شرعه وحمل الناس على اتباع أحكامه ، فهي مجتمعة على أمر واحد لا تعدد فيه هو الحق والعدل; فهي جديرة بأن تكون أمة واحدة . وإن شئت قلت كما قالوا : إن الأمة بمعنى الملة في الآيتين ، يراد بذلك أن الله يخبر المرسلين بأن هذا الذي سبق في الكلام من السير في الناس بهداية الله والمثابرة على ذلك وعدم المبالاة بما يكون منهم من تكذيب أو تثريب أو تعذيب ، هذه هي ملتكم [ ص: 224 ] ودينكم وهو أمر واحد لا تعدد فيه ، يأتي به السابق ويتبعه عليه اللاحق ، لا يختلف فيه نبي عن نبي ولا يناكر فيه مرسل مرسلا .
هذا المعنى من الوحدة هو الذي جاء في قوله تعالى في سورة هود : ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) ( 11 : 118 ، 119 ) وفي قوله في سورة الشورى : ( ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير ) ( 42 : 8 ) أي : لو شاء ربك لخلق الناس على غريزة تميل إلى الحق ، وفطرة يسطع فيها نور الهداية إليه بدون حجاب من الهوى والشهوة أو ظلمة الفكر وستر الغواية ، فكانوا جميعا على مثال الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم بإحسان ، وكانوا بذلك من أهل السعادة وسكان دار النعيم ، ولكن قضى ربك أن يخلق الإنسان إنسانا يكله إلى فكره ، ويدعه إلى سعيه وكسبه ، فلا يزال يتخبط في الاختلاف ، وسيجرهم الاختلاف إلى دار الشقاء بعد الخزي في دار الفناء ، إلا أولئك الذين رحمهم ربك من هداة العالمين ، وقادة الناس إلى خير الدارين ، ومن وفقه الله لاستجابة دعوتهم والاهتداء بسنتهم ، فأدخلهم في رحمته بعد ما شمل الظالمين بسخطه ونقمته .
ويفهم من هاتين الآيتين الكريمتين أن الناس لم يكونوا أمة واحدة قط ، لا بمعنى أنهم كانوا جميعا على الخير والهدى; لأن الله خلق الإنسان على غريزة تبعد به عن الاتحاد على الحق والاتفاق على العدل ، ولا بمعنى أنهم كانوا جميعا على الضلال كما تراه من صريح النسق الشريف ، فكان الناس - ولا يزالون - منهم المحسن والمسيء ، والمهتدي والضال ، سنة الله في هذا الخلق .
لكنك تجد في سورة يونس نصا صريحا في أن الله تعالى شاء أن يكون الناس أمة واحدة قال تعالى : ( وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون ) ( 10 : 19 ) ولا يمكنك أن تحمل ( كان ) على معناها من المضي; لأن الحصر يبعد ذلك بالمرة ، فالمراد منه أن الناس كانوا ولا يزالون أمة واحدة ونشأ عن هذه الوحدة نفسها اختلافهم ، وكان الله سبحانه يقضي في الخلاف بإهلاك من ينحرف منهم عن سبيل الفطرة السليمة فلا يبقى من الناس إلا من استقام عليها ، ولكن سبقت كلمته وثبت في علمه وتم في مشيئته أن يكون الناس في أمرهم كاسبين لسعيهم ، مكلفين بالنظر فيما بين أيديهم من الآيات ، وأن يكون منهم الضال والمهتدي والعادل والمعتدي حتى يوفي كلا جزاءه في الدار الأخرى; ولهذا بعث فيهم الرسل عليهم الصلاة والسلام ليكونوا لهم أئمة في الإيمان وأسوة في العمل الصالح .
[ ص: 225 ] فهل يمكنك مع هذا أن تحمل وحدة الأمة على وحدة العقيدة والعمل ، كما حملتها على ذلك في الآيات الأخر ؟ ليس ذلك بممكن; لأن الناس ليسوا أمة واحدة بذلك المعنى بل هم مختلفون ، فلا ريب أنه يجب حمل وحدة الأمة على معنى آخر ، وهو ذلك الذي نختاره في الآية التي نحن بصدد تفسيرها .
خلق الله الإنسان أمة واحدة; أي : مرتبطا بعضه ببعض في المعاش لا يسهل على أفراده أن يعيشوا في هذه الحياة الدنيا إلى الأجل الذي قدره الله لهم إلا مجتمعين يعاون بعضهم بعضا ، ولا يمكن أن يستغني بعضهم عن بعض ، فكل واحد منهم يعيش ويحيا بشيء من عمله ، لكن قواه النفسية والبدنية قاصرة عن توفيته جميع ما يحتاج إليه ، فلا بد من انضمام قوى الآخرين إلى قوته فيستعين بهم في بعض شأنه، كما يستعينون به في بعض شأنهم ، وهذا الذي يعبرون عنه بقولهم : ( الإنسان مدني بالطبع ) يريدون بذلك أنه لم يوهب من القوى ما يكفي للوصول إلى جميع حاجاته ، بل قدر له أن تكون منزلة أفراده من الجماعة منزلة العضو من البدن ، لا يقوم البدن إلا بعمل الأعضاء، كما لا تؤدي الأعضاء وظائفها إلا بسلامة البدن .
فلما كان الناس أمة واحدة ولا يمكن أن يكونوا بمقتضى فطرهم إلا كذلك، وهم إنما يعملون بمقتضى آرائهم ، وينحون في أعمالهم نحو المنافع التي يرونها لازمة لقوام معيشتهم ، ولن يمنحوا من قوة الإلهام ما يعرف كلا منهم وجه المصلحة في حفظ حق غيره ، لتوفير المنفعة بذلك لنفسه ، لما كانوا كذلك كان لا بد لهم من الاختلاف ، وكان من رحمة الله بهم أن يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ، وترتيب بعثة الرسل على وحدة الأمة في الآية التي نفسرها يكون على هذا المعنى : أن الناس أمة واحدة لا بد لهم أن يعيشوا تحت نظام واحد يكفل لهم ما يحتاجون إليه مدة بقائهم في هذه الحياة الدنيا ، ويضمن لهم ما به يسعدون في الحياة الأخرى ، ولا يمكنهم في هذه الوحدة ومع تلك الوصلة اللازمة بمقتضى الضرورة أن يتفقوا على تحديد ذلك النظام مع اختلاف الفطر وتفاوت العقول وحرمانهم من الإلهام الهادي لكل منهم إلى ما يجب عليه لصاحبه ، لما كانوا كذلك كان من لطف الله ورحمته بهم أن يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ، يبشرونهم بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة إذا لزم كل واحد منهم ما حدد له واكتفى بما له من الحق ، ولم يعتد على حق غيره ، وينذرونهم بخيبة الأمل وحبوط العمل وعذاب الآخرة إذا اتبعوا شهواتهم الحاضرة ولم ينظروا في العاقبة .
هذه الآية الكريمة جاءت بمنزلة بيان الحكمة فيما سبقها من الأوامر الإلهية والأخبار السماوية . أمر الله الذين آمنوا بنبيه وكتابه بأن يدخلوا في السلم كافة ، وهو على أحد الوجوه السلام، وعلى أحدها الإسلام ، والسلام : هو الوفاق الذي ليس معه نزاع ، ولا يليق بمن جاءته الهداية من ربه، تبين له الطريق الذي يسلكه في معاملة إخوانه ومن يرتبط معه برابطة بعيدة [ ص: 226 ] أو قريبة من الناس، أن ينحو في عمله نحو ما يدعو إلى الخلاف ويثير النزاع ، بل الواجب عليه أن يقف عندما حددته هداية الكتاب الإلهي والسنن النبوي ، والإسلام كذلك يدعو إلى السلام . ثم بين سبب ما يقع من الاختلاف بين الناس ويحرمهم حيطة النظام فقال : ( زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا ) أي : إن جاحد الحق والمعرض عن هداية الله له التي يسوقها إليه على أيدي رسله إنما ينظر في عمله إلى ما يوفر عليه لذاته في هذه الحياة الدنيا ، فهو لا يسعى إلا إلى لذة عاجلة ، ولا ينظر إلى عاقبة آجلة ، ومن كان هذا شأنه كان أمره اختلافا وشقاقا ورياء ونفاقا .
ثم أراد الله تعالى أن يقيم الدليل على أن الاهتداء بهدي الأنبياء ضروري للبشر ، وأنه لا غنى لهم عنه مهما بلغوا من كمال العقل ، فقال : إن الله قضى أن يكون الناس أمة واحدة يرتبط بعضهم ببعض ، ولا سبيل لعقولهم وحدها إلى الوصول إلى ما يلزم لهم في توفير مصالحهم ودفع المضار عنهم ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، وأيدهم بالدلائل القاطعة على صدقهم ، وعلى أن ما يأتون به إنما هو من عند الله تعالى القادر على إثابتهم وعقوبتهم ، العالم بما يخطر في ضمائرهم ، الذي لا تخفى عليه خافية من سرائرهم .