قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين
تضمنت هذه الآيات الأربع دحض تلك الشبهات الأربع التي ردوا بها عليه وشبهات أخرى من لوازمها ، وربما صرحوا بها واستغني عن حكايتها بالعلم بها من الرد عليها ، وهو من دقائق إيجاز القرآن المعجز للبشر فتأمله .
قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) خاطبهم - عليه السلام - بلقب القوم مضافا إلى ضمير ( ( يا قومي ، وحذف الياء من الرسم مراعاة للنطق ) ) استعطافا وإيذانا بأنه يدعوهم إلى ما هو خير لهم ، وكلمة ( ( أرأيتم ) ) تستعمل عند العرب بمعنى أخبروني عن رأيكم فيما يأتي بعدها كما تقدم في سورة يونس ( ( 10 : 50 و 59 ) ) وغيرها ، والبينة ما يتبين به الحق وتقدم الكلام عليها آنفا في تفسير الآية 17 . (
أي أخبروني يا قومي الأعزاء ما رأيكم وقولكم في حالي معكم ، إن كنت على حجة [ ص: 55 ] ظاهرة من ربي فيما جئتكم به تبين لي بها أنه الحق من عنده لا من عندي وكسبي البشري الذي تشاركونني فيه ، وإنما هي فوق ذلك ( وآتاني رحمة من عنده ) وهي النبوة وتعاليم الوحي التي هي سبب رحمة الله الخاصة لمن يهتدي بها فوق رحمته العامة لعباده كلهم ( فعميت عليكم ) قرأ الجمهور ( ( عميت ) ) بالتخفيف كخفيت وزنا ومعنى ، ومثلها ( فعميت عليهم الأنباء ) ( 28 : 66 ) وقرأها حمزة والكسائي وحفص بالتشديد والبناء للمفعول ، أي فحجبها عنكم جهلكم وغروركم وجاهكم فلم تستبينوا بها ما تدل عليه من التفرقة بيني وبينكم إذ جعلتموني بشرا مثلكم ، والتعبير ( بعميت ) مخففة ومشددة أبلغ من التعبير بخفيت وأخفيت ; لأنه مأخوذ من العمى المقتضي لأشد أنواع الخفاء ، ويجوز عودة الضمير إلى البينة لاقتضاء خفائها خفاء الرحمة كما هو شأن الدليل مع المدلول ، ويجوز عوده إلى الرحمة باعتبار ذكرها بعد البينة كأنه قال : فخفيت عليكم رحمة الله لكم بهذه النبوة لخفاء البينة الدالة عليها ، أو لأن البينة خاصة به - عليه السلام - ، وهي العلم الضروري الذي يعلم به النبي أنه نبي ( أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ) أي أنلزمكم إياها بالجبر والإكراه ، والحال أنكم كارهون لها إنكارا وجحودا واستكبارا ؟ أي لا نفعل ذلك ; فإن : وما على الرسول إلا البلاغ ، وهو أول نص في دين الله - تعالى - يدل على أنه ما كان ولا يصح أن يكون بالإكراه ، وأما ما فعله الإسلام لا يصح إلا بإيمان الإذعان نصارى الإفرنج في سابق تاريخهم - وما لا يزال يفعله بعضهم في مستعمراتهم - من التنصير بإجبار الأقوام على النصرانية ، فهو مما امتازوا به على أمم الشرق في ظلمهم وتعصبهم . وهذه الآية إثبات لنبوته - عليه السلام - ورد لإنكارهم لها وتكذيبه ومن معه فيها ، وإبطال لشبهتهم الأولى في أنه بشر مثلهم . وهي مبنية على أن المساواة في البشرية تقتضي استواء أفراد الجنس ، ويدفعها ما هو معلوم بالحس والخبر ( بالضم أي الاختبار ) من التفاوت العظيم بين أفراد البشر في العقل والفكر والرأي والأخلاق والأعمال بما هو أبعد من التفاوت بينهم وبين بعض الحيوان الأعجم ، حتى إن واحدا منهم ليأتي من الإصلاح لقومه بالعلم والعمل ما يعجز عن مثله الألوف الكثيرون في القرون المتوالية ، وكل هذا في محيط التفاوت العادي ، والعلم والعمل الكسبي ، وفوقهما ما اختص الله به من شاء من عباده بما لا كسب لهم فيه فجعلهم أنبياء ورسلا له ، كما بيناه بالتفصيل في مباحث الوحي المحمدي .
( ويا قوم لا أسألكم عليه مالا ) أعاد نداءهم بقوله : ( ( ويا قوم ) ) استعطافا وتكريرا للتذكير بأنه إنما يدعوهم لخيرهم ومصلحتهم ، وصرح لهم بأنه لا يسألهم على ما دعاهم إليه مالا فيكون متهما فيه عندهم لمكانة حب المال من أنفسهم ، واعتزازهم به عليه وعلى الفقراء من أتباعه ، والمال : ما يملك ويقتنى من نقد وماشية وغيرها ، وعبر في سورة الشعراء بالأجر ، ويدل عليه هنا ( إن أجري إلا على الله ) أي ما أجري على تبليغه والقيام بأعبائه إلا على الله الذي [ ص: 56 ] أرسلني به ، وكل رسول بعده أمر أن يبلغ قومه هذا ، كما تراه في سورة الشعراء محكيا عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ، وتكرر مثله بأمره - تعالى - عن محمد رسول الله وخاتم النبيين ، وما اتصل به من الاستثناء في قوله : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) ( 42 : 23 ) فهو - أي الاستثناء - منفصل معناه ، لكن أسألكم مودة أولي القربى لكم ، وصلة الأرحام التي تبالغون فيها وتقاتلون لأجلها . فهذه الجملة دفع لشبهة أخرى على نبوة نوح كغيره لا بد أن تكون حاكت في صدور قومه ، وقد يكون بعضهم تكلم بها ( وما أنا بطارد الذين آمنوا ) أي وليس من شأني ولا بالذي يقع مني طرد الذين آمنوا من قربي وجواري لاحتقاركم لهم ، ووصفكم إياهم بالأراذل جهلا منكم ، فهذا رد على الشبهة الثانية في كلامهم بنفي لازمه وهو الطرد ، وقد يكونون صرحوا بذكر هذا اللازم ، وهذه سنة أكابر مجرمي الكفار من جميع أقوام المرسلين ، بينها هنا وفي سورة الشعراء في قوم نوح أولهم ، وتكرر معناها في قوم خاتمهم ، ومنه في ذكر الطرد قوله - تعالى - في سورة الأنعام : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) ( 6 : 52 ) الآية .
وفي معناها قصة الأعمى في سورته ( إنهم ملاقو ربهم ) هذا تعليل مستأنف لنفي الطرد ، معناه : أنهم يلاقون ربهم يوم القيامة فهو يتولى حسابهم وجزاءهم ، وليس على الرسول من هذا شيء ، إن عليه إلا البلاغ ، فليس يضركم ما هم عليه ، والله أعلم به وبهم ( ولكني أراكم قوما تجهلون ) أي تسفهون عليهم ، من الجهالة المضادة للعقل والحلم ، أو تجهلون ما يمتاز به البشر بعضهم على بعض من اتباع الحق والتحلي بالفضائل ، وعمل البر والخير ، وتظنون أن الامتياز إنما يكون بالمال المطغي ، والجاه بالباطل المردي ، وفي قصته من سورة الشعراء : ( قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين ) ( 26 : 111 - 115 ) وفي معنى ما هنا من أن حسابهم على الله تتمة الآية ( 6 : 52 ) المشار إليها آنفا ، وهو بمعنى قوله - تعالى - : ( ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم ) كرر هذا النداء لما سبق بيانه آنفا ، والاستفهام بعده إنكاري ، أي لا يوجد أحد ينصرني من الله بأن يمنع عني ما أستحقه من عقابه إن طردتهم بعد إيمانهم لي واتباعهم إياي فيما بلغتهم عنه ، وهو ظلم عظيم يقتضي العقاب الشديد بعدل الله - تعالى - مهما تكن صفة من اقترفه ، كما يصرح به في الآية التالية ، وكما قال في آخر آية الأنعام ( فتطردهم فتكون من الظالمين ) ( 6 : 52 ) ( أفلا تذكرون ) أصله تتذكرون ، حذفت إحدى التائين منه للتخفيف وهو قياس ، ويقدر بعد همزة الاستفهام فعل عطفت عليه الجملة ، أي : أتصرون على جهلكم ، أو أتأمروني أن أطردهم فلا تتذكرون أن لهم ربا ينصرهم وينتقم لهم ؟ .
[ ص: 57 ] ( ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ) هذا معطوف على قوله : ( لا أسألكم عليه مالا ) ، ولهذا لم يكرر النداء فيه ، وهذه الثلاث التي نفاها نوح - عليه السلام - عن نفسه ، هي التي كان يظن المشركون من قومه وممن بعدهم أن ثبوتها لازم لمن كان نبيا مرسلا من الله - تعالى - إن صحت دعواه ، وإلا كان كسائر البشر لا فضل له عليهم ، ومن ثم كان نفيها متضمنا لرد شبهة حجتهم الثالثة ; ولهذا أمر الله - تعالى - خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - بنفيها عن نفسه في سورة الأنعام ( 6 : 50 ) ونختصر في تفسيرها هنا لتفصيله هنالك .
أما خزائن الله - تعالى - فالمراد منها أنواع رزقه التي يحتاج إليها عباده للإنفاق منها كما قال ( قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ) ( 17 : 100 ) والمعنى : لا أقول لكم بادعائي للنبوة والرسالة إن عندي خزائن رزق الله - تعالى - أتصرف فيها بغير وسائل الأسباب المسخرة لسائر الناس ، بحيث أنفق على نفسي وعلى من اتبعني بالتصرف فيها بخوارق العادات ، بل أنا وغيري من البشر في كسبها سواء ، إذ ليست من موضوع الرسالة ولا من خصائصها ووظائفها ، ولو كانت كذلك لاتبع الناس الرسل لأجلها ، لا لما بعثوا لأجله من تزكية الأنفس بمعرفة الله وعبادته ، وتأهيلها للقائه - تعالى - ومثوبته في دار كرامته . وأما علم الغيب ، فالمراد به امتياز النبي على سائر البشر بعلم ما لا يصل إليه علمهم الكسبي من مصالحهم ومنافعهم ومضارهم في معايشهم وكسبهم ، فيخبر بها أتباعه ليفضلوا غيرهم بالتبع له ، ولهذا أمر الله خاتم النبيين أن يقول لقومه : ( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ) ( 7 : 188 )
وقال بعض المفسرين : إن نفي ادعائه الغيب يتضمن الرد على قولهم في أتباعه أنهم اتبعوه بادي الرأي من غير تفكر ولا استدلال ، فهم غير موقنين بإيمانهم ، وإنما يظنون ظنا ، فهو يقول : إنه لم يعط علم الغيب فيحكم على بواطنهم ، وإنما أمر أن يأخذ بالظاهر ، والله هو الذي يعلم السرائر ، وهذان الأمران اللذان نفاهما كتاب الله عن رسله يثبتهما مبتدعة المسلمين وأهل الكتاب لمن يسمونهم الأولياء والقديسين منهم ، وقد بينا بطلان هذا مرارا .
وأما نفي كونه ملكا فهو داحض لشبهتهم أن الرسول من الله إلى البشر يجب أن يفضلهم ويمتاز عليهم ، وإذن لا بد أن يكون ملكا من ملائكة الله ، يعلم ما لا يعلم البشر ويقدر على ما لا يقدر عليه البشر ، وهذه المسألة مفصلة ومكررة في سورة الأنعام ، وبينا في خلاصة تفسيرها من جزء التفسير الثامن جملة ما جاء فيها مع شواهده من غيرها في ذلك تحت عنوان ( شبهات الكفار على الوحي والرسالة ) فراجعها في ( ص 245 ج8 وما بعدها ط الهيئة ) .
[ ص: 58 ] ( ولا أقول للذين تزدري أعينكم ) الازدراء : افتعال من الزراية ، يقال : زرى على فلان يزري زرية وزراية ( بالكسر ) إذا عابه واستهزأ به ، وأزرى به إزراء تهاون به ، أي : ولا أقول في شأن الذين تنظرون إليهم نظر الاستصغار والاحتقار فتزدريهم أعينكم لفقرهم ورثاثتهم : ( لن يؤتيهم الله خيرا ) كما تقولون أنتم . والمراد بالخير ما وعد على الإيمان والهدى من سعادة الدنيا والآخرة . ويراجع تفسير ما حكى الله عن كفار قريش بقوله : ( وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه ) ( 46 : 11 ) وغير هذا مما في معناه .
( الله أعلم بما في أنفسهم ) مما آتاهم من الإيمان على بصيرة ، واتباع رسوله بإخلاص وصدق سريرة ، خلافا لما زعمتم من اتباعي بادي الرأي بغير بصيرة ولا علم ( إني إذا لمن الظالمين ) أي إني إذا قلت ذلك فيهم لمن الظالمين ، إذ أكون ظالما لنفسي بالتقول على الله غير ما أعلمه عنه من وعد المؤمنين بخير الدنيا والآخرة ، وظالما للمؤمنين المحسنين بهضم حقهم ، ويجوز أن يكون المعنى : إني إذا قلت شيئا مما نفيته من أول الآية ، بأن ادعيت أني أملك التصرف في خزائن رزق الله ورحمته بالعطاء والمنع ، أو أعلم الغيب إلخ . لمن زمرة الظالمين الراسخين في الظلم ، لا من الأنبياء المرسلين المعتصمين بالحق والعدل ، وفي هذا التعليل لاجتناب ما ذكر تعريض بالمخاطبين ، يدل على أنهم من الظالمين ، وبهذا تمت حجته - عليه السلام - عليهم ودحضه لجميع شبهاتهم ، ولذلك قالوا قول المعترف بالعجز ، المنتهي به عجزه إلى حد اليأس :