وما نحن لك بمؤمنين قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ .
هذه الآيات الخمس في رد قومه للدعوة وجحودهم للبينة ، وحجته عليهم وإنذاره لهم . ( قالوا يا هود ما جئتنا ببينة ) أي بحجة ناهضة تدل على أن ما جئت به من الله - تعالى - ( وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ) أي وما نحن بالذين نترك عبادة آلهتنا صادرين عن قولك ، أو تركا صادرا عن قولك من تلقاء نفسك وأنت بشر مثلنا ( وما نحن لك بمؤمنين ) أي وما نحن بمتبعين لك اتباع إيمان وتصديق برسالتك التي لا بينة لك عليها ، وما قولهم هذا إلا جحود وعناد ، فإن حجته - عليه السلام - موافقة للعقل والفطرة السليمة .
( إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ) أي : ما نجد من قول نقوله فيك إلا أن بعض آلهتنا أصابك بجنون أو خبل - وهو الهوج والبله - لإنكارك لها وصدك إيانا عنها ( قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه ) هذا بدء جواب يتضمن عدة مسائل : [ ص: 98 ] الأولى : البراءة من شركهم أو شركائهم التي افتروها ولا حقيقة لها . ( الثانية ) : إشهاد الله على ذلك لثقته بأنه على بينة منه فيه - وإشهاده إياهم عليه أيضا لإعلامهم بعدم مبالاته بهم وبما يزعمون من قدرة شركائهم على إيذائه . ( الثالثة ) : قوله : ( فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ) أي فأجمعوا أنتم وشركاؤكم ما تستطيعون من الكيد للإيقاع بي ثم لا تمهلوني ، ولا تؤخروا الفتك بي إن استطعتم ، أي أنه لا يخافهم ولا يخاف آلهتهم . وتقدم مثل هذا في تلقين نبينا - صلى الله عليه وسلم - بقوله - تعالى - بعد تقرير عجز آلهة المشركين وهو : ( قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون ) ( 7 : 195 ) ومثله حكاية عن نوح في سورة يونس : فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون 10 : 71 وقد قدم نوح على هذا الأمر توكله على الله - تعالى - ، وأخره هود بقوله وهو المسألة ( الرابعة ) .
( إني توكلت على الله ربي وربكم ) هذا احتجاج على ما دل عليه ما قبله من عدم الخوف منهم ومن آلهتهم ، يقول : إني وكلت أمر حفظي وخذلانكم إلى الله معتمدا عليه وحده إذ هو ربي وربكم ، أي : مالك أمري وأموركم ، المتصرف فيها وفي غيرها ؛ بدليل قوله : ( ما من دابة ) تدب على هذه الأرض ( إلا هو آخذ بناصيتها ) أي : مسخرها ومتصرف فيها ، والتعبير بالأخذ بالناصية - وهو مقدم شعر الرأس - تمثيل لتصرف القهر والخضوع الذي لا مهرب منه ولا مفر ، وتقدمت الجملة في أول الآية السادسة من هذه السورة ، ويؤيده من سورة العلق : ( كلا لئن لم ينته لنسعفا بالناصية ) ( 96 : 15 ) أي : لنأخذن بها أخذ القاهر المؤدب . قال في الأساس : وسفع بناصية الفرس ليلجمه أو يركبه ، وسفع بناصية الرجل ليلطمه ويؤدبه اهـ . ( إن ربي على صراط مستقيم ) أي : على طريق الحق والعدل ، لا يسلط أهل الباطل من أعدائه على أهل الحق من رسله ومتبعيهم من أوليائه ، ولا يضيع حقا ، ولا يفوته ظالم .
( فإن تولوا ) أي : فإن تتولوا مجرمين ولم تنتهوا بنهيي لكم عن التولي ، ولم تطيعوا أمري لكم بعبادة الله وحده وترك الإشراك به ( فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ) أي : فقد أبلغتكم رسالة ربي التي أرسلني بها إليكم ، وليس علي غير البلاغ ولزمتكم الحجة ، وحقت عليكم كلمة العذاب ( ويستخلف ربي قوما غيركم ) إذا هو أهلككم بإصراركم على كفركم وإجرامكم ( ولا تضرونه شيئا ) ما من الضرر بتوليكم عن الإيمان ، فإنه غني عنكم وعن إيمانكم ( إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ) ( 39 : 7 ) ويستلزم هذا أنكم لا تضرون رسوله ، ولعله هو المراد ، ويؤيده قوله : ( إن ربي على كل شيء حفيظ ) أي : قائم ورقيب عليه بالحفظ والبقاء ، على ما اقتضته سنته وتعلقت به مشيئته ، ومنه أنه ينصر رسله ويخذل أعداءه وأعداءهم إذا أصروا على الكفر بعد قيام الحجة عليهم .