[ ص: 103 ] ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب ( 64 ) فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ( 65 ) فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز ( 66 ) وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( 67 ) كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود ( 68 )
هذه الآيات الخمس في بينة الله لصالح - عليه السلام - وهي آيته على رسالته ، وإنذارهم الهلاك وعذاب الاستئصال إذا هم مسوها بسوء ، ووقوع ذلك بالفعل .
- ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية - أي : بجعلها ممتازة دون الإبل بما ترون من أمرها وأكلها وشربها ، أشير إليها حال كونها لكم آية منه بينة دالة على هلاككم إن خالفتم أمره فيها - فذروها تأكل في أرض الله - مما فيها من المراعي لا يعرض لها أحد بمنع - ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب - أي : لا يمسها أحد منكم بأذى فيأخذكم كلكم عذاب عاجل لا يتأخر عن مسكم إياها بعقر أو غيره ، وقد تقدم هذا الإنذار بنصه في قصته من سورة الأعراف ، إلا أنه قال هناك : عذاب أليم 7 : 73 وكل من الوصفين حق ، وقد تكلمت هنالك على هذه الناقة ومعنى إضافتها إلى الله - تعالى - ، وما جاء فيها من السور الأخرى ، ومنه قسمة الماء بينها وبينهم ( فيراجع في ص 447 و 450 من ج 8 ط الهيئة ) . الناقة التي شرفها الله بإضافتها إلى اسمه
- فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام - يقولون : عقر الناقة ( من باب ضرب ) بالسيف إذا ضرب قوائمها له أو نحرها ، أي فقتلوا الناقة عقب ذلك الإنذار غير مصدقين له ولا مبالين بالوعيد ، فضرب لهم صالح ثلاثة أيام موعدا يتمتعون بها في وطنهم كما كانوا في معايشهم - ذلك وعد غير مكذوب - أي : وعد من الله غير مكذوب فيه ، وكذب يتعدى بنفسه فيقال : كذب فلانا حديثا وكذبه الحديث أي كذب عليه فيه ، والوعد خبر موقوت ، [ ص: 104 ] كأن الواعد قال للموعود : إنني أفي به في وقته ، فإن وفى فقد صدقه ولم يكذبه ، ويجوز أن يكون مكذوب مصدرا ، وله نظائر كالمفتون والمجلود ومنه : بأيكم المفتون 68 : 6 - فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ - أي : فلما جاء أمرنا بإنجاز وعدنا بعذابهم نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ، ونجيناهم من خزي ذلك اليوم : أي ذله ونكاله باستئصال القوم من الوجود ، وما يتبعه من سوء الذكر ولعنة الإبعاد من رحمة الله - تعالى - ، وأصل التعبير : نجيناهم برحمة منا من خزي يومئذ ، ففصل بين ( من ) التي هي صفة الرحمة ، و ( من ) الموصلة للعذاب كما تقدم في قصة هود بدون إعادة فعل التنجية الذي صرح به هناك ، وقدر هنا استغناء عن ذكره بقرب مثله .
فهذه الآية كالآية ( 58 ) في قصة هود ومعناهما واحد ، إلا أن هذه جاءت بالفاء - فلما - وتلك بالواو ، وهو الأصل في مثل هذا العطف ، وإنما كانت الفاء هي المناسبة لما هنا ؛ لأن ما قبلها جاء بالفاءات المتعاقبة الواقعة في مواقعها من أمر الإنذار فالوعيد على المخالفة فالمخالفة فتحديد موعد العذاب بثلاثة أيام فالإخبار بإنجازه ووقوعه - فما كان المناسب في هذا إلا أن يكون بالفاء تعقيبا على ما قبله ، كما قال في آخر سورة الشمس : - فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها 91 : 13 و 14 وإنما بينت هذا من نكت البلاغة لأنني لم أره في التفاسير التي تعنى بها .
فليتأمل القارئ هذه الدقة الغريبة في اختلاف التعبير عن المعنى الواحد في الموضوع الواحد والفروق الدقيقة في العطف ، فإنها لا توجد في كلام أحد من بلغاء البشر ألبتة ، وليعذر الذين يفهمونها إذا جعلوا بلاغة القرآن هي التي أعجزت العرب والإنس والجن عن الإتيان بسورة مثله ، وإن كان إعجازه العلمي من وجوهه الكثيرة أعلى .
- إن ربك هو القوي العزيز - إن ربك أيها الرسول الذي فعل هذا قادر على فعل مثله بقومك إذا أصروا على الجحود ، فإنه هو القوي المقتدر الذي لا يعجزه إنجاز وعده ، العزيز الغالب على أمره .
قرأ الجمهور : - يومئذ - بجر يوم بالإضافة ، وقرأه نافع بالفتح وهما لغتان ، ومثله في سورة المعارج : - والكسائي لو يفتدي من عذاب يومئذ - 70 : 11 .
- وأخذ الذين ظلموا الصيحة - الأخذ في أصل اللغة التناول باليد ، واستعمل في المعاني كأخذ الميثاق والعهد وفي الإهلاك ، والصيحة : المرة من الصوت الشديد ، والمراد بها هنا صيحة صالح فأحدثت رجفة في القلوب وزلزلة في الأرض ، وصعق بها جميع القوم - الصاعقة التي نزلت بقوم فأصبحوا في ديارهم جاثمين - أي : ساقطين على وجوههم مصعوقين لم ينج منهم أحد ، شبهوا بالطير في لصوقها بالأرض . يقال : جثم الطائر والأرنب ( من باب ضرب ) جثوما ، وهو كالبروك من البعير . وتقدم في سورة الأعراف : - فأخذتهم الرجفة - 7 : 87 إلخ . وقد فصلنا في تفسيرها ما ورد من اختلاف التعبير فيها وفي هذه الآية ، ومثلها [ ص: 105 ] آية ( 44 ) سورة الذاريات حيث قال : - فأخذتهم الصاعقة - وفي سورة فصلت آية 17 فأخذتهم صاعقة العذاب - وبينا معنى الصاعقة الذي عرف من سنن الله - تعالى - في نوعي الكهربائية الإيجابي والسلبي فيراجع في ( ص 451 و 452 ج 8 ط الهيئة ) ومنه يعلم غلط من قال : إن " الصيحة " صوت جبريل عليه السلام .
- كأن لم يغنوا فيها - هو من غني بالمكان ( كرضي ) إذا أقام فيه ، أي كأنهم في سرعة زوالهم ، وعدم بقاء أحد منهم في ديارهم ، لم يقيموا فيها ألبتة - ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود - تقدم مثله آنفا في قوم هود ، وفي ثمود قراءتان سبعيتان مشهورتان : تنوينه لأنه مصروف بمعنى الحي أو القوم ، ومنعه من الصرف بمعنى القبيلة ، وهذه قراءة أكثر الناس في زماننا .