( الباب الرابع في البعث والجزاء ) :
: الأول لدعوة المشركين إلى الإيمان به والاستدلال على قدرة الخالق - تعالى - عليه ، وإزالة استبعادهم له وتقريبه إلى إدراكهم بضرب الأمثال له . آيات البعث في القرآن نوعان
( والثاني ) لتذكير المؤمنين به للترغيب والترهيب والموعظة ، والجزاء قسمان أيضا : جزاء المؤمنين والمتقين الصالحين ، وجزاء الكافرين الظالمين المجرمين ، ولكل من البعث والجزاء بقسميه ألوان من البيان الرائع العجيب ، وأساليب في التعبير البليغ ، وكل من النوعين والقسمين يجتمعان ويفترقان في التعبير عنهما والخطاب بهما بتلك الأساليب المختلفة في الآية والآيتين والآيات ، ولكل منهما تأثيره في الخوف والرجاء ، يجعل التكرار الضروري لتثبيت المعاني في النفس غير ممل للسمع ، ولا مسئم للطبع ، وهذا من أبدع ما يمتاز به كلام الرب المعجز على كلام خلقه . فتأمل ذلك وتدبره في قوله أول السورة بعد ذكر الإنذار والتبشير ، والتخويف من عذاب يوم كبير : - إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير - 4 ثم تأمل قوله بعد ذكر خلق السموات والأرض إذ كان عرشه على الماء ليبلو العقلاء المخاطبين أيهم أحسن عملا : - ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين - 7 فالآيتان من نوع الاستدلال على البعث والجزاء معا بأن الخالق القدير ، ذا الحكمة البالغة في التقدير والتدبير ، لا تظهر عظمة قدرته ، وسر حكمته في تقديره ، إلا باختبار عباده الذين وهبهم العقل والتمييز بين الحق ، الذي تتجلى به الحكمة في الخلق ، والباطل العبث بخلوها منه ، وبالجزاء على ما يعملون من خير وشر ، وحسن وقبيح ، وهذا الجزاء لا يكون تاما عاما للأفراد في الدنيا لقصر أعمالهم فيها ، فدل على أن الحكمة الربانية تقتضي أن يكون في حياة ثانية بعد هذه الحياة الدنيا ، فكل ما يدل على ربوبيته - تعالى - وحكمته وعدله يدل على البعث والجزاء لأنه من لوازمها .
وإن ما بعد هذا من الآيات في رسالة نبينا - صلى الله عليه وسلم - قد تكرر فيه جزاء الكافرين والمؤمنين في الآخرة ; لأن مشركي العرب كانوا أكثر جدالا من كل قوم في البعث بعد الموت ، فترى بعدها كل جدال نوح وصالح لقومه في عقيدة التوحيد بعبادة الله وحده دون عقيدة البعث ، وزاد شعيب مسألة الأمر والنهي في المكيال والميزان ، وانحصر إنذار لوط في النهي عن الفحشاء والمنكر ، ثم ختم الله العبرة في هذه القصص بهلاكهم في الدنيا [ ص: 178 ] وعدم إغناء آلهتهم عنهم من شيء ، وهو دليل التوحيد ، وبعذاب الآخرة إذ عاد الكلام كما بدأ في إنذار مشركي أم القرى وما حولها من العرب ، فذكر اليوم الآخر وما فيه من الجزاء بتلك الآيات البليغة الممتازة : - إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود - 103 الآيات - ولما بين فيها جزاء كل من فريق الأشقياء والسعداء وخلودهم في النار والجنة ، استثنى بعد كل منهما استثناء لم يسبق له فيما قبله ولا فيما بعده من القرآن نظير في ذاته ولا في التفرقة بينهما ، وهو قوله في أهل النار : - خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد - 107 وفي أهل الجنة : - خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ - 108 .
حار في هذا الاستثناء والتفرقة فيه بين الدارين المفسرون من علماء الآثار والمتكلمين والصوفية ; لتعارضه في الظاهر مع الآيات الكثيرة في خلود الفريقين ، وتأكيد بعضها بكلمة التأييد ، ولكن أكثره في المؤمنين أصحاب الجنة ، حتى في الآيات التي فيها المقابلة بين الفريقين كما تراه في سورة النساء ( 4 : 56 مع 57 و 121 مع 122 ) وفي سورة التغابن ( 64 : 9 مع 10 ) وفي سورة البينة ( 98 : 6 مع 8 ) ففي هذه الآيات يؤكد بالتأييد دون خلود المؤمنين في الجنة ، كما يؤكده في آيات أخرى من سور : كالنساء والتوبة والمائدة والطلاق بدون مقابلة . خلود الكافرين في النار
ومثل هذه الفروق لا تأتي في الذكر الحكيم جزافا أو عبثا أو عن غفلة ككلام البشر ، بل يتعين أن يكون لها حكمة في التشريع ، ونكتة في بلاغة التعبير ، ولا يقدر على الغوص في هذا البحر الخضم واستخراج أمثال هذه الدرر منه إلا الجامع بين أسرار العلمين - علم حكم التشريع وعلم أسرار البلاغة - ولقد كان أقرب ما يقال في تلك الآيات أنها بمعنى الاستثناء في هاتين الآيتين المتبادر منهما في ذاتهما ، وهو التفرقة بين الجزاء بالفضل فوق العدل الذي يضاعف من عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف ، والجزاء بالعدل والمساواة الذي لا يظلم فيه مثقال ذرة ، وما فوقه من رحمة الله التي وسعت كل شيء ، ولكن يقف في طريق هذا الفهم على وضوحه أن التأييد أكد به جزاء الذين كفروا وظلموا في أواخر سورة النساء ( 41 : 167 - 169 ) وجزاء الذين لعنهم الله منهم في سورة الأحزاب 33 : 57 و 64 ) وجزاء العصاة في سورة الجن : - ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا - 72 : 23 والقواعد تقتضي جعل العصيان هنا عاما شاملا لترك الإيمان بمعنى الشرك .
على أننا بينا في تفسير ما تقدم من الآيات في الخلود والتأييد معناهما اللغوي ، وأنه لم يكن عند العرب لفظ منها ولا من غيرها يدل على التأييد في الاصطلاح الشرعي ، وهو عدم النهاية في الوجود وإن قدرت بألوف الألوف وما لا يحصى من السنين .
[ ص: 179 ] وبينا في تفسير الاستثناء هنا وفي سورة الأنعام أن جمهور المفسرين تأولوه لموافقة المقرر في العقائد من أن خلود أهل النار كأهل الجنة ، وأن بعضهم جعله على ظاهره لأنه معارض بنصوص القرآن والحديث الصريحة في سعة رحمة الله وعدله ، وكون العقاب عنده على قدر الذنب ; لأن الزيادة ظلم وهو محال على الله - عز وجل - عقلا ونقلا ، وكنت وعدت بأن أذكر هنا كل ما قاله العلماء في هذا الموضوع ، ثم رأيت الآن أن لا حاجة إليه بعد أن وجهت تفسير الاستثناء بما يجمع بين النصوص المتعارضة الظاهر وما سبق في تفسير آية الأنعام ( 6 : 127 ص 54 - 86 ج8 تفسير ط الهيئة ) وهو ما بسطه المحقق ابن القيم من دلائل الفريقين ، وخلاصته : أن رحمة الله - تعالى - أوسع وأكمل ، وإرادته أعم وأشمل ، فلا يقيدهما شيء ولا يحيط بهما إلا علمه . وقد تعرض لهذا الموضوع من المفسرين المتأخرين القاضي الشوكاني في تفسيره ( فتح القدير ) وتبعه السيد حسن صديق خان في تفسيره ( فتح البيان ) فليراجعهما من شاء .