( المسألة الحادية عشرة : ) : حصر الإرادة في شهوات الحياة الدنيا وزينتها دون الآخرة والاستعداد لها
خلق الله - تعالى - هذا الإنسان مستعدا لعلوم ومعارف لا حد لها ، فجعله خليفة له في الأرض - وعلم آدم الأسماء كلها - 2 : 31 ولذلك ترى الناس يبحثون عن جميع الموجودات مما في الأرض وفي السماوات ، من كشف عن قطبي الأرض وشناخيب أعلى الجبال ، [ ص: 185 ] وغوص في أعماق البحار ، وتحليق في أقصى محيط الهواء ، بل تجاوزوا كل هذا إلى رؤية ما فوقه من شموس وأقمار ، وما تتألف منه من ضياء وأنوار ، وما فيها من عجائب وأسرار ، ويبذلون في سبيل ذلك الأموال والشهوات والحياة أيضا ، وهم مستعدون بفطرتهم الروحية للوصول إلى ما هو أعلى من ذلك كله من عالم الغيب ، والوصول إلى العلم الأعلى بالله الواحد القهار ، ومعرفته معرفة كشف ورؤية بالبصائر يغشي نورها الأبصار ، بالتجلي الذي ترفع به أكثر الحجب والأستار ، بغير كيف ولا حد ولا انحصار ، في حياة بعد هذه الحياة الدنيوية ، المقيدة فيها أرواحهم بهذه الأشباح الكثيفة الجسدية ، وإن له - تعالى - هنالك لتجليات لعباده المقربين ، كما تجلى كلامه في الدنيا لأسماعهم وأبصارهم وعقولهم وقلوبهم بما يعلو كلام المخلوقين . أفليس من الحماقة والجناية على هذا الاستعداد العلوي العظيم ، أن يجعل هذا الإنسان إرادته محصورة في هذه الحياة المادية ، وزينتها الجسدية ، فيكون منكرا أو كالمنكر لتلك الحياة الأبدية ؟ بلى وذلك قوله - تعالى - : - من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون - 11 : 15 و 16 وما في معناهما من الآيات .
( فإن قيل ) : وما تفعل بقوله - تعالى - : - قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة - 7 : 32 الآية ؟
( قلت ) : إنما كانت للمؤمنين في الدنيا بالاستحقاق ، وإن شاركهم غيرهم بالكسب وسنن الأسباب ، لأنهم هم الذين يشكرونها لله ولا تشغلهم عنه فتكون إرادتهم محصورة في التمتع بها ، كيف وهم الذين قال فيهم : - ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين 6 : 52 ، - واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه - 18 : 28 فالمؤمن الشاكر الصابر تزيده النعم شوقا إلى الله وحبا ، والشدائد معرفة بالله وقربا .