( الشاهد السادس عشر في الاختلاف في الدين ) :
ترى في الآيتين ( 118 و 119 ) ( 1 ) بيان سنن الله - تعالى - في اختلاف الأمم في الدين كاختلافهم في التكوين والعقول والفهوم ، وحكمة جعلها في خاتمة السورة : أنها أهم ما فيها من العبر للمؤمنين بالقرآن ، وهو أكمل هداية وهبها الله للإنسان ، لتكون كافلة كافية له إلى آخر الزمان ، ذلك بأن ما قبلها كله من سنن الاجتماع المبينة لأسباب فساد الأفراد والأمم وقد أرشدهم القرآن لاتقائها ، فهو جامع لوصف أمراض البشر كلها ولوصف علاجها ، فمن آمن به وتدبره من الأفراد والجماعات الصغرى ( البيوت والفصائل والعشائر ) والكبرى ( الشعوب والقبائل ) عمل به ، ومن عمل به سلم من الفساد والهلاك ، والهلاك حتما ، وإنما ينحصر الخوف عليهم في ترك العمل به ، وهذا الترك إذا كان من بعض الأفراد فخطبه سهل ، لأنه إما أن يكون من جهله بالحكم خالفه ودواؤه التعليم ، وإما أن يكون من فساد تربيته ودواؤه النصيحة والإرشاد ، وكل منهما مفروض على إخوانه المسلمين ، فإن لم يقبل النصيحة بالقول فعلاجه من جماعة المؤمنين ومن حكومتهم معروف ، وكذا إذا كان الترك من الجماعات الكبيرة أو الصغيرة للجهل أو لأسباب مالية أو عداوة شخصية ، أو عصبية دنيوية ، علاج كل ذلك في القرآن ظاهر .
وإنما البلاء الأكبر والموت الأحمر والخطر الأسود المظلم فهو اختلاف الشيع والأحزاب في الدين ، والزيغ عن القرآن باتباع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، فهذا الذي أشير إليه في هاتين الآيتين بحرمان أهله من رحمة الله في قوله : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك 118 و 119 والمراد بهذه الرحمة في الدنيا ما وعد به المؤمنين واختصهم به في آيات كثيرة ، منها ما هو في رحمته المطلقة كقوله : إنه بهم رءوف رحيم 9 : 117 ، وكان بالمؤمنين رحيما 33 : 43 ومنها ما هو خاص برحمته بكتابه الأخير الذي أكمل به دينه وأتم على المؤمنين نعمته ، كقوله فيه : وهدى ورحمة للمؤمنين 10 : 57 ومنها ما هو خاص برحمته برسوله خاتم النبيين ، وهو وصفه - تعالى - إياه بما وصف به نفسه في قوله : بالمؤمنين رءوف رحيم 9 : 128 فهذه الرحمة الخاصة بالمؤمنين بالله الأول الآخر ، وبكتابه الأخير وبنبيه الخاتم - صلى الله عليه وسلم - لا تتم لأفرادهم إلا بتمام الاهتداء والاتباع لما كلفوه [ ص: 206 ] بقدر الاستطاعة الشخصية ، ولا تكون لجماعتهم - وهي الأمة - إلا باعتصامها بحبل الله وعروة الوحدة الوثقى ، باجتناب السواد الأعظم منها لما نهوا عنه من التفرق والتنازع في الأصول القطعية من النصوص والسنة العملية ، ورد الاختلاف والتنازع في غير القطعي إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم إلى ترجيح أولي الأمر في المصالح العامة من السياسة والقضاء ، وترجيح الأفراد في المسائل الاجتهادية الخاصة ، وقد فصلنا هذا في مواضعه ، فالحق فيه ظاهر ، ولكن تنفيذه يتوقف على وجود الجماعة التي أمرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - باتباعها وعدم مفارقتها قيد شعرة ، وهي جماعة ( أولي الأمر ) وأهل الحل والعقد ، وهم الذين يثق بهم السواد الأعظم من الأمة ، وينوط بهم الشرع نصب الأئمة ( الخلفاء ) والسلاطين عليها وعزلهم ، وقد فقدوا من أمتنا باستبداد الظالمين من ملوك العصبيات المختلفة بعد أن قضى عليها الإسلام ، وتبرأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ممن دعا إلى عصبية وممن قاتل على عصبية . فالواجب على المصلحين وضع نظام لإعادة حكم الإسلام وقد بسطناه في كتاب ( الخلافة أو الإمامة العظمى ) .
وأختم هذه الخلاصة بحديث : ) ) شيبتني هود وأخواتها رواه ( ( في الكبير عن الطبراني عقبة بن عامر وأبي جحيفة مرفوعا وأشار في الجامع الصغير إلى صحته . وروي عن بضعة نفر من الصحابة بزيادة ( ( قبل المشيب ) ) وبزيادة ( ( وأخواتها ) ) من المفصل في بعضها ، وبتسمية الواقعة والحاقة والمرسلات والنبأ ( ( عم يتساءلون ) ) وغيرها من سور قيام الساعة في بعض . وأسانيدها حسنة فليتدبرها المؤمنون .