ذهب الجمهور والمخدوعون بالروايات إلى أن المعنى أنها همت بفعل الفاحشة ولم يكن لها معارض ولا مانع منها ، وهم هو بمثل ذلك ، ولولا أنه رأى برهان ربه لاقترفها ولم يستح بعضهم أن يروي أخبار اهتياجه وتهوكه فيه ووصف انهماكه وإسرافه في تنفيذه ، وتهتك المرأة في تبذلها بين يديه ، ما لا يقع مثله إلا من أوقح الفساق المسرفين المستهترين ، الذين طال عليهم عهد استباحة الفواحش وألفتها حتى خلعوا العذار ، وتجردوا من جلابيب الحياء ، وأمسوا عراة من لباس التقوى وحلل الآداب ، كأهل مدنية هذا العصر من الرجال والنساء في مواخير البغاء السرية ، وما يقرب منه في حمامات البحر الجهرية ، حتى كادوا يعيدون للعالم فجور مدينة ( بومباي ) الرومانية ، التي خسف الله بها وأمطر عليها من براكين النار مثلما أمطر على قرية قوم لوط من قبلها ، فإن مثل هذا الذي افتروه في قصة هذا النبي الكريم ، لا يقع مثله ممن ابتلي بالمعصية أول مرة من سليمي الفطرة ، ولا من سذج الأعراب الذين لم تغلبهم سورة الشهوة الجامحة على حيائهم الفطري ، وإيمانهم وحيائهم من نظر ربهم إليهم ، فضلا عن نبي عصمه الله ووصفه بما وصف ، وشهد له بما شهد ، وقد بلغ ببعضهم ( كالسدي ) الجهل بالدين والوقاحة وقلة الأدب أن يزعموا أن يوسف - عليه السلام - لم ير برهانا واحدا ، بل رأى عدة براهين من رؤية والده متمثلا له منكرا عليه ، وتكرار وعظه له ، ومن رؤية بعض الملائكة ونزولهم عليه بأشد زواجر القرآن بآيات من سوره ، فلم تنهه من شبقه ، ولم تنهه عن غيه ، حتى كان أن خرجت شهوته من أظافره ، ومعنى هذا أنه [ ص: 232 ] لم يكف إلا عجزا عن الإمضاء ، أفبهذا صرف الله عنه السوء والفحشاء ، وكان من عباد الله المخلصين ، وأنبيائه المصطفين المجتبين الأخيار ؟
ولئن كان عقلاء المفسرين أنكروا هذه الروايات الإسرائيلية ، حماية لعقيدة عصمة الأنبياء ، فإنه لم يكد يسلم أحد من تأثير بعضها في أنفسهم ، وتسليمهم لهم أن الهم من الجانبين كان بمعنى العزم على الفاحشة ، إلا من خالف قواعد اللغة فقال إن قوله - تعالى - : ( وهم بها ) جواب لقوله : ( لولا أن رأى برهان ربه ومن قال : إن جوابه محذوف دل عليه ما قبله ، فهو على هذين القولين لم يهم بشيء ، وهو خلاف المتبادر من العبارة أو ظاهرها ، وتأوله بعضهم بأن همه بالفاحشة بمقتضى الداعية الفطرية لا ينافي العصمة ، وإنما ينافيها طاعتها بدليل ما صح في الحديث أن ( ( ) ) ، وأن امتناعه عنها بترجيح داعية الإيمان وطاعة الله - تعالى - مع طغيانها وإلحاحها الطبيعي عليه أدل على الإيمان والطاعة من كونه لم يفعلها كراهة لها وعزوفا عنها لقبحها ، ولهم تأويلات من هذا ، ولقد كانوا لولا تأثير الرواية في غنى عنها . من هم بسيئة ولم يفعلها لم تكتب عليه
والتأويل الأخير أوله مقبول وآخره مردود ، فههنا مرتبتان : إحداهما الكف عن المعصية جهادا للنفس وكبحا لها خوفا من الله - تعالى - وهي مرتبة الصالحين الأبرار ، ومرتبة الكراهة لها والاشمئزاز منها حياء من الله ومراقبة له واستغراقا في شهوده ، وهي مرتبة الصديقين والنبيين الأخيار ، الذين إذا عرضت لهم الشهوة المستلذة بالطبع ، بالصورة المحرمة في الشرع ، عارضها من وجدان الإيمان ، وتجلي الرحمن ، ما تغلب به روحانيتهم الملكية ، على طبيعتهم الحيوانية ، وهذا مما قد يحصل لمن دون الأنبياء منهم ، فكيف بمن يرون برهان ربهم بأعين قلوبهم ، وينعكس نوره عن بصائرهم فيلوح لأبصارهم ، كما أشرنا إليه في تفسيره آنفا ؟
ولهذه المرتبة درجات منها : فقد الشهوة الطبيعية في هذه الحال ، أو فقد الشعور بالقدرة على وضعها في الموضع المحرم مع وجودها على أشدها ، ولا عجب ؛ فقوى النفس وانفعالاتها الوجدانية تتنازع فيغلب أقواها أضعفها . حتى إن من الإباحيين والإباحيات من أهل الحرية الطبيعية من يملك في مثل تلك الخلوة منع نفسه أن يبيحها لمن يراوده عنها ، لا خوفا من الله ولا حياء منه لأنه غير مؤمن به أو بعقابه ، بل وفاء لزوج أو عشيق عاهده على الاختصاص به فصدقه .
حدثنا مصور سوري كان زير نساء فاسقا أنه كان في بعض الولايات المتحدة الأمريكانية ، فأعلن في بعض الجرائد أنه يطلب امرأة جميلة لأجل أن يصورها كما يشاء بجعل معين من المال ، وهذا معهود عند الإفرنج ، فجاءه عدة من الحسان اختار إحداهن وخلا بها في حجرته الخاصة وأوصد بابها ، وأمرها بالتجرد من جميع ثيابها ، فتجردت فطفق [ ص: 233 ] يصورها على أوضاع مختلفة من انتصاب وانحناء ، وميل والتواء ، وإقبال وإدبار ، وهو لا يفكر في غير إتقان صناعته ، فعرض لها دوار في رأسها ، فجلست على أريكة للاستراحة فجلس بجانبها ، وأنشأ يلاعبها ويداعبها وهي ساكنة ساكتة ، فتنبه في نفسه من الشعور ما كان غافلا أو نائما ، فراودها عن نفسها ، فتمنعت بل امتنعت ، فعرض عليها المال فأعرضت ، فقال لها : أنت حرة في نفسك ، ولكني أرجو منك أن تجيبيني عن سؤال علمي هو ما بيان سبب هذا الامتناع ؟ قالت : سببه أنني عاهدت رجلا يحبني وأحبه على أن يكون كل منا للآخر لا يشرك في الاستمتاع به أحدا ، ولا يبتغي به بدلا ، فقال لها : إني أهنتك وأحترم وفاءك هذا ، ثم أتم صناعته ونقدها الجعل المعين فأخذته وانصرفت .
والراجح عندي أن هذه المرأة لم تشته مواتاة هذا الرجل فتجاهد نفسها على الامتناع ، وأن المانع من اشتهائه توطين نفسها على الوفاء لعشيقها الأول ، حتى لم تعد تتوجه إلى الاستمتاع بغيره ، وتوجيه النفس إلى الشيء أو عنه هو صاحب السلطان الأعلى على الإرادة ، وتربية الإرادة هي أصل التخلق بالفضائل والتخلي عن الرذائل باتفاق الحكماء والصوفية ، ويسمي هؤلاء سالك طريق الحق مريدا ، والواصل إلى غايته مرادا ، أي مجتبى مختارا ، وهو لا يكون على كماله إلا لأصحاب الإيمان اليقيني الوجداني ، ومن ذاق عرف ، ومن حرم انحرف ، كما قال أستاذنا في رسالة التوحيد ، ولقد عجبنا أن أنكر علينا بعض المحرومين عن هذا ممن نعدهم بحق من الصالحين قولنا في المقصورة الرشيدية فيمن امتنع من رقية صدر فتاة حسناء :
أتت فتى خاف مقام ربه ما زال ينهى نفسه عن الهوى لم يقترف فاحشة قط ولم يعزم
ولا هم بها ولا نوى بغرة منها وصفو نية
في معزل تشهيه أقصى ما اشتهى مما يمنيه به شيطانه من
حيث لا يطمع منه في خنا لكنه استعصم راويا لها
ما أمر الله به وما نهى
إذ ظن المنكر فيه أنه فضل نفسه على يوسف - عليه السلام - وأين هذا من ذاك .
وجملة القول : أن أعظم مزايا البشر في قوة الإرادة فلولاها لكان الإنسان كالحيوان الأعجم عبد الطبيعة ، ولذلك كانت المراودة احتيالا لتحويل الإرادة وجعلها خاضعة للمراود ، وإنما يظفر فيها من كانت إرادته أقوى ، وفوق ذلك عناية الله - تعالى - ( فتأمل وتدبر ) .
فإذا كان في أهل الإباحة والحرية المطلقة من تملك إرادتها ولا تلين لمراودها ، ولا يغريها [ ص: 234 ] المال وهو المعبود الأكبر لأمثالها في بلادها ، فيحملها على نقض عهدها في مثل تلك الخلوة وذلك التجرد بين يدي مصورها ، ولقد كان من أجمل الشباب ، وأبرعهن في تصبي النساء ، أفيكثر أو يستغرب في رأي أولئك الرواة ، أن يكون يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم في وراثته الفطرية والأدبية ومقام النبوة عن آبائه الأكرمين ، وما اختصه به ربه وكونه هو الغالب على أمره من تربيته وعنايته ، وما شهد له به من العرفان والإحسان والاصطفاء ، وما صرف عنه من دواعي السوء والفحشاء ، وما قص علينا من شهادة تلك المرأة له على نفسها بقولها : ( ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ) 32 أي استمسك بعروة العصمة الوثقى التي لا انفصام لها ، ثم شهد له به صواحبها من المراودات من قولهن : ( حاش لله ما علمنا عليه من سوء ) 51 أي أدنى شيء سيئ ، ثم ما أيدت به شهادتهن من قولها : ( الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ) 51 أيكثر عليه أو يستغرب منه أن يكون أملك لنفسه من تلك المرأة الإباحية ، أو بمنجاة من الهم الذي زعموه ، وصوروه بشر ما تصوروه ، أو بما صوره لهم مضلوهم من زنادقة اليهود ليلبسوا عليهم دينهم ، ويشوهوا به تفسير كلام ربهم ؟ ثم يكون منتهى شوط المنكرين عليهم أن يتأولوا تفسيرهم تأويلا ، والقرآن يتبرأ منه بلغته وأسلوبه وأدبه وهدايته ، والعبرة المراودة منه لخاتم رسله والمؤمنين به ، ولا يغرنك إسناد تلك الروايات إلى بعض الصحابة والتابعين ، فلو لم يكن لنا من الأدلة على وضعها عليهم ، أو تصديقهم لقول بعض اليهود فيها إلا بطلان موضوعها في نفسه ، وكونه من علم الغيب في القصة التي لم يعلم رسول الله منها غير ما قصه الله عليه في هذه السورة - كما صرح به في آية ( 102 ) آخرها - لو لم يكن لنا من أدلة وضعها غير هذا لكفى ، فكيف وهي مخالفة للقرآن في لغته كمخالفتها له في هدايته أيضا !
رد قول الجمهور في تفسير همها وهمه عليه السلام :
فأنا أرد على جميع من فسروا هم المرأة بغير ما اخترته ، لا همه وحده ، وأقول : لولا الغرور بالروايات الباطلة لم يخطر لأحد منهم غيره ، أرد عليهم بعبارة القرآن في مدلولها اللغوي فهو حجة عليهم فأقول :
أجمع أهل اللغة على أن الهم إنما يكون بالأعمال ، لا بالشخوص والأعيان ، وتحقيق معناه أنه مقاربة فعل تعارض فيه المانع والمقتضي فلم يقع لرجحان المانع ، وهو الموافق لقول علماء الأصول في التعارض الأعم ، ولكن رجحان المانع هنا قد يكون بإرادة صاحب الهم ومنه هم يوسف ، وقد يكون من غيره ومنه هم هذه المرأة : كان همهما واحدا وهو البطش بالضرب أو ما في معناه ، وكان المانع منه إرادته هو وعجزها هي بهربه ، وهاك الشواهد على القسمين .
[ ص: 235 ] حكى الله عن المشركين في سورة الأنفال أنهم مكروا بالرسول ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه ، وحكى عنهم وعن المنافقين في التوبة أنهم ( هموا بإخراج الرسول ) آية 13 - صلى الله عليه وسلم - من بلده مكة ، ولكنهم لم يفعلوا لأنهم خافوا أن يستجيب له غيرهم من العرب فيقوى أمره ، فرجحوا المانع بإرادتهم ، وحكى عن المنافقين أنهم ( هموا بما لم ينالوا ) آية 74 إذ حاولوا أن يشردوا به بعيره في العقبة منصرفه من غزوة تبوك ، فلم ينالوا مرادهم عجزا منهم وحفظا من ربه له - صلى الله عليه وسلم - وفي معناه قوله - تعالى - له : ( ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك ) 4 : 113 ولكنه قدم هنا ولولا فكان دليلا على أنهم فكروا في ذلك وما قاربوا . وقال في بعض المؤمنين : ( إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا ) 3 : 122 أي تتركا المضي مع الرسول للقتال يوم ( ( أحد ) ) جبنا واتباعا لعبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين . ولكن غلب عليهما داعي الإيمان فلم تفشلا ، وهو المعبر عنه بقوله - تعالى - : ( والله وليهما ) 3 : 122 فرجحتا المانع من الفشل بالمقتضي للجهاد .
وفي المسند والصحيحين وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هم أن يأمر رجلا يصلي بالناس ، ثم يأمر من يحرق على المتخلفين عن صلاة الجمعة بيوتهم ابن مسعود - وفي حديث عن عند أبي هريرة أبي داود : والترمذي ) ) يعني - صلى الله عليه وسلم - أنهم يستحقون هذا حتى كاد يفعله ، ولكنه امتنع ترجيحا للمانع على المقتضي . ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة فأحرقها عليهم
إذا علم هذا ، فمن الجلي أنه لا يصح تفسير : ( ولقد همت به ) بهذا المعنى الذي أثبتناه بشواهد الكتاب والسنة إلا بما قررناه ، وأن ما قاله الجمهور باطل لمخالفته له ، بل للغة القرآن وهدايته ، وإنما خدعتهم به الروايات الباطلة ، وبيانه من وجوه :
( أولها ) أن الهم لا يكون إلا بفعل للهام ، والوقاع ليس من أفعال المرأة فتهم به ، وإنما نصيبها منه قبوله ممن يطلبه منها بتمكينه منه ، وهذا التمكين هو الذي يثبت به دخول الزوجية الذي تستحق فيه المرأة النفقة من زوجها كما هو مقرر في الفقه .
( ثانيها ) أن يوسف - عليه السلام - لم يطلب من امرأة العزيز هذا الفعل فيسمى قبولها لطلبه ورضاها بتمكينه منه هما لها ، فإن نصوص الآيات قبل هذه الآيات وبعدها تبرئه من ذلك ، بل من وسائله ومقدماته أيضا .
( ثالثها ) لو أن ذلك وقع لكان الواجب في التعبير عنه أن يقال : ( ( ولقد هم بها وهمت به ) ) ؛ لأن الأول هو المقدم بالطبع والوضع وهو الهم الحقيقي . والهم الثاني متوقف عليه لا يتحقق بدونه .
( رابعها ) أنه قد علم من القصة أن هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته [ ص: 236 ] طلبا جازما مصرة عليه ، ليس عندها أدنى تردد فيه ولا مانع منه يعارض المقتضي له ، فإذن لا يصح أن يقال إنها همت به مطلقا ، حتى لو فرض جدلا أنه كان قبولا لطلبه ومواتاة له ؛ إذ الهم مقاربة الفعل المتردد فيه ، وهو الذي يصح فيما حققناه من إرادة تأديبه بالضرب على أهون تقدير ، فهذا هو المتبادر من نص اللغة ومن السياق وأقربه
( واستبقا الباب ) أي فر قوله عز وجل : يوسف من أمامها هاربا إلى باب الدار يريد الخروج منه للنجاة منها ، ترجيحا للفرار على الدفاع الذي لا يعرف مداه ، وتبعته تبغي إرجاعه حتى لا يفلت من يدها ، وهي لا تدري أين يذهب إذا هو خرج ولا ما يقول وما يفعل ، وتكلف كل منهما أن يسبق الآخر ، فأدركته ( وقدت قميصه من دبر ) إذ جذبته به من ورائه فانقد ، قالوا : إن القد خاص بقطع الشيء أو شقه طولا والقط قطعه عرضا ( وألفيا سيدها لدى الباب ) أي وجدا زوجها عند الباب ، وكان النساء في مصر يلقبن الزوج بالسيد واستمر هذا إلى زماننا ، ولم يقل سيدهما لأن استرقاق يوسف غير شرعي ، وهذا كلام الله - عز وجل - لا كلام الرجل المسترق له ، ولعله كان قد تبناه بالفعل ، فلما دخل ورآهما في هذه الحالة المنكرة ( قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ) أي شيئا يسوءك مهما يكن صغيرا أو كبيرا كما يدل عليه تنكير ( سوءا ) ، ( إلا أن يسجن ) أي إلا سجن يعاقب به أو ( عذاب أليم ) موجع يؤدبه ويلزمه الطاعة . وكان هذا القول مكرا وخداعا لزوجها من وجوه .
( أولها ) إيهام زوجها أن يوسف قد اعتدى عليها بما يسوءه ويسوءها .
( ثانيها ) أنها لم تصرح بذنبه لئلا يشتد غضبه فيعاقبه بغير ما تريده كبيعه مثلا .
( ثالثها ) تهديد يوسف وإنذاره ما يعلم به أن أمره بيدها ليخضع لها ويطيعها .
فماذا قال يوسف في دفع التهمة الباطلة عنه وإسنادها إليها بالحق ؟ ولولاه لأسبل عليها ذيل الستر ؟