( يوسف ) : حادثة مكر النسوة بامرأة العزيز ومراودة
هذه الآيات الست في حادثة النسوة من كبار بيوتات مصر ، اللائي مكرن بامرأة العزيز لتجمعهن بهذا الشاب الذي فتنها جماله ، وأذلها عفافه وكماله ، حتى راودته عن نفسه وهو فتاها ، ودعته إلى نفسها فردها وأباها ، خشية وطاعة لله ، وحفظا لأمانة السيد المحسن إليه ، أن يخونه في أعز شيء لديه ، لعله يصبو إليهن ، ويجذبه من جمالهن الطارئ المفاجئ له ، ما لم يجذبه من جمالها الذي ألفه قبل أن يبلغ أشده ، وكان نظره إليها نظر الرقيق إلى سيدته ، [ ص: 240 ] أو الولد إلى والدته ، وقد جاءت في السورة بأبدع صورة من الإيجاز والبلاغة ، وأعلى تعبير من الأدب والنزاهة ، وهو :
( وقال نسوة في المدينة ) النسوة : جمع قلة للمرأة من غير مادة لفظها ، ولم يبين لنا التنزيل عددهن ولا أسماءهن ولا صفاتهن ؛ لأن الفائدة في العبرة محصورة في أن عملهن عمل جماعة قليلة يعهد في العرف ائتمارهن واتفاقهن على الاشتراك في مثل هذا المكر المنكر ، في مدينة كبيرة كعاصمة مصر ، التي بلغت منتهى فتن الحضارة ، وما تقتضيه من التمتع بالشهوات والزينة ، ولفظ النسوة مفرد مذكر فيجوز تذكير ضميره للفظه وتأنيثه لمعناه .
ومن غريب فتنة الروايات الباطلة ، أن يدعي بعضهم أن اللواتي أجبن دعوتها الآتية منهن كن أربعين امرأة ، وهو مردود بالتعبير عن العاذلات كلهن بجمع القلة ، وكذا ما علم بقرينة الحال والمقال من أنهن من بيوتات كبار الدولة ، فإن نساء البيوت الدنيا وكذا الوسطى لا يتسامين - بعد الإنكار على امرأة العزيز كبير وزراء الملك - إلى الوصول إليها بالمكر والحيلة ، لمشاركتها في فتنتها بل نعمتها ، أو سلب عشيقها منها ، ويؤيد ذلك ما يأتي من عاقبة حادثهن ، وكان من الطبيعي المعهود أن يعرفن نبأها معه ، ويكون حديثهن الشاغل لهن في مجالسهن الخاصة ، وكان خلاصته الوجيزة المؤدية لمرادهن منه ما حكاه التنزيل عنهن وهو قولهن : ( امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ) هذا خبر يراد به لازمه ، وهو التعجب والإنكار الصوري من النواحي أو الجهات الأربع :
( 1 ) كون المتحدث عنها امرأة عزيز مصر وزير الملك الأكبر في علو مركزها . ( 2 ) كونها تهين نفسها وتحقر مركزها بأن تكون مراودة لرجل عن نفسه ، وشأن مثلها - إن سخت بعفتها - أن تكون مراودة عن نفسها لا مراودة لغيرها كما تقدم .
( 3 ) أن الذي تراوده عن نفسه هو فتاها ورقيقها .
( 4 ) أنها بعد أن افتضح أمرها وعرف به سيدها وزوجها ، وعاملها بالحلم ، وأمرها باستغفار ربها ، لا تزال مصرة على ذنبها ، مستمرة على مراودتها ، وهو ما أفاده قولهن : ( تراود ) وهو فعل المضارع الدال على الاستمرار ( قد شغفها حبا ) أي قد اخترق حبه شغاف قلبها أي غلافه المحيط به ، وغاص في سويدائه ، فملك عليها أمرها ، حتى إنها لا تبالي ما يكون من عاقبة تهتكها ، واللائق بمقامها الكتمان ومكابرة الوجدان ( إنا لنراها في ضلال مبين ) أي إنا لنراها بأعين بصائرنا وحكم رأينا غائصة في غمرة من الضلال البين الظاهر البعيد عن محجة الهدى والصواب .
وهن ما قلن هذا إنكارا للمنكر وكرها للرذيلة ، ولا حبا في المعروف ونصرا للفضيلة ، وإنما قلنه مكرا وحيلة ، ليصل إليها فيحملها على دعوتهن ، وإراءتهن بأعين أبصارهن ، ما يبطل ما يدعين رؤيته بأعين بصائرهن ، فيعذرونها فيما عذلنها عليه ، فهو مكر لا رأي .
( فلما سمعت بمكرهن ) وكان من المتوقع أن تسمعه لما اعتيد بين هذه البيوت ، [ ص: 241 ] من التواصل بالزيارات ، واختلاف الخدم من كل منها إلى الآخر ، وهن ما قلنه إلا لتسمعه ، فإن لم يصل إليها عفوا ، احتلن في إيصاله قصدا ، فكان ما أردنه : ( أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا ) أي دعتهن إلى الطعام في دارها ، ومكرت بهن كما مكرن بها ، بأن أعدت وهيأت لهن ما يتكئن عليه إذا جلسن من الكراسي والأرائك وهو المعتاد في دور الكبراء ، قال - تعالى - في صفة الجنة : ( متكئين فيها على الأرائك ) 18 : 31 وكان ذلك في حجرة مائدة الطعام ، وأعطت كل واحدة منهن سكينا ليقطعن به ما يأكلن من لحم أو فاكهة ، وروي عن بعض مفسري السلف تفسير المتكـأ بالطعام الذي يتكأ عليه ، أي يعتمد عليه لأجل قطعه كالجامد والشديد القوام ، دون الرخو كالموز الناضج من الفاكهة والحساء من الطعام ، والاتكاء على الشيء هو التمكن بالجلوس عليه أو الاعتماد عليه باليد أو اليدين ، قال في المصباح المنير : وتوكأ على عصاه اعتمد عليها ، واتكأ جلس متمكنا ، وفي التنزيل : ( وسررا عليها يتكئون ) 43 : 34 أي يجلسون . وقال : ( وأعتدت لهن متكأ ) 31 أي مجلسا يجلسن عليه . قال ابن الأثير : والعامة لا تعرف الاتكاء إلا الميل في القعود معتمدا على أحد الشقين ، وهو يستعمل في المعنيين جميعا ، يقال : اتكأ إذا أسند ظهره أو جنبه إلى شيء معتمدا عليه ، وكل من اعتمد على شيء فقد اتكأ عليه ، وروي عن ابن عباس ومجاهد تفسير المتكأ هنا بالأترج أو الأترنج لأنه لا يقطع إلا بالاتكاء عليه ، وفي السنة أنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان يأكل وهو متكئ ( وسعيد بن جبير وقالت اخرج عليهن ) أي أمرت يوسف بالخروج عليهن ، وكان في حجرة أو مخدع في داخل حجرة الطعام التي كن فيها محجوبا عنهن ، ولو كان في مكان خارج عنها لقالت : ادخل عليهن ، فعلم من هذا أنها تعمدت أن يفجأهن وهن مشغولات بما يقطعنه ويأكلنه ، عالمة بما يكون لهذه الفجاءة من تأثير الدهشة ، وهو ما حكاه التنزيل عنهن من قوله - تعالى - : ( فلما رأينه أكبرنه ) أي أعظمنه ودهشن لذلك الحسن الرائع ، والجمال البارع ، وغبن عن شعورهن وقطعن أيديهن بدلا من تقطيع ما يأكلن ، ذهولا عما يعملن ، بأن استمرت حركة السكاكين الإرادية بعد فقد الإرادة على ما كانت عليه قبل فقدها ، ولكنها وقعت على أكف شمائلهن ، وقد سقط منها ما كان فيها من استرخائها بذهول تلك الدهشة فقطعتها أي جرحتها ، ولولا استرخاؤها لأبانتها ، والظاهر أن مضيفتهن تعمدت جعلها مشحوذة فوق المعهود في سكاكين الطعام مبالغة في مكرها بهن ؛ لتقوم لها الحجة عليهن بما لا يستطعن إنكاره ، [ ص: 242 ] واختلف المفسرون في هذا القطع ، هل كان قطع إبانة انفصلت به الكف من المعصم أو الأصابع من الكف ؟ أم قطع جرح أطلق فيه لفظ بدء الشيء على غايته من باب المبالغة ، وهو ما يسميه علماء البيان بالمجاز المرسل ؟
الأكثرون على الثاني ، وهو مستعمل إلى اليوم بالإرث عن قدماء العرب فيمن يحاول قطع شيء فتصيب السكين يده فتجرحها ، يقول : كنت أقطع اللحم أو الحبل ( مثلا ) فقطعت يدي ، كأنه يقول : كاد ما أردته من قطع اللحم يكون بيدي مما أخطأت ، ولا يقال فيمن جرح عضوا منه أو من غيره كالطبيب قاصدا جرحه إنه قطعه إلا إذا بالغ فيه ، يقال : أراد أن يجرح رجله ليخرج منها شظية نشبت فيها فقطعها ، يريد أنه بالغ فكاد يقطعها ، وقد أشار إلى مثل هذا القيد في استعمال القطع بمعنى الجرح فقال : ( ( كما تقول : كنت أقطع اللحم فقطعت يدي ) ) يريد فأخطأت فجرحتها حتى كدت أقطعها ( الزمخشري وقلن حاش لله ما هذا بشرا ) أي قلن هذا تعجبا وتنزيها لله - تعالى - أن يكون خلق هذا الشخص العجيب في جماله وعفته من نوع البشر ، وهو مالم يعهد له في الناس مثل ، إنه ليس بشرا مثلنا ( إن هذا إلا ملك كريم ) أي ما هذا إلا ملك من الملائكة الروحانيين تمثل في هذه الصورة البديعية التي تدهش الأبصار وتخلب الألباب ( كما كان يصور لهم صناعهم الرسامون والنحاتون أرواح الملائكة والآلهة بالصور والتماثيل لتكريمها وعبادتها ) وأحسن كلمة رويت في الآية عن مفسري السلف قول ابن زيد بن أسلم المدني : أعطتهن أترنجا وعسلا فكن يحززن الأترنج بالسكين ويأكلنه بالعسل ، فلما قيل له : اخرج عليهن ، خرج فلما رأينه أعظمنه وتهيمن به حتى جعلن يحززن أيديهن بالسكين وفيها الأترنج ، ولا يعقلن ولا يحسبن إلا أنهن يحززن الأترنج ، قد ذهبت عقولهن مما رأين ( وقلن حاش لله ما هذا بشرا ) ما هكذا يكون البشر ، ما هذا إلا ملك كريم . انتهى . ففسر قطع الأيدي بحزها ، والحز أقل ما يحدثه السكين كالقرض في الخشبة ، وهنا يتساءل المتسائلون : ماذا قالت لهن ، وقد غلب مكرها مكرهن ؟ وصار حالها وحالهن كما قال الشاعر :
أبصره عاذلي عليه ولم يكن قبلها رآه فقال لي لو عشقت هذا
ما لامك الناس في هواه فظل من حيث ليس يدري
يأمر بالعشق من نهاه
( قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ) أي حينئذ قالت لهن ما يعلم شرحه من قرينة الحال ، لما جاء في التنزيل من إيجاز وإجمال : إذا كان الأمر ما رأيتن بأعينكن ، وما أكبرتن في [ ص: 243 ] أنفسكن ، وما فعلتن بأيديكن ، وما قلتن بألسنتكن ، فذلكن هو الأمر البعيد الغاية الذي لمتنني فيه ، وأسرفتن في عذلي عليه ، إذ قلتن من قبل ما قلتن ، فالمشار إليه بكاف البعد هو أمر لومهن لها ، أو يوسف البعيد في حقيقته البديع في صورته عما تصورنه به ، فما هو عبراني أو كنعاني مملوك ، وخادم صعلوك ، قد شغف مولاته المالكة لرقه حبا وغراما ، فهي تراوده عن نفسه ضلالا منها وهياما ، بل هو أكبر من ذلك وأعظم ، هو ملك روحاني ، تجلى في شكل إنساني ، أوتي من روعة الجمال ما خلب ألبابكن في الوهلة الأولى من ظهوره لكن ، فما قولكن في أمري معه وافتتاني به ، وإنما ترعرع في داري ، وبلغ أشده واستوى بين سمعي وبصري ، فأنا أشاهده في قعوده وقيامه ، ويقظته ومنامه ، وطعامه وشرابه ، وحركته وسكونه ، وأخلو به في ليلي ونهاري ، فأراه بشرا سويا ، إنسيا لا جنيا ، وجسدا لا ملكا روحانيا ، فأتراءى له في زينتي ، وأعرض على نظره ما ظهر وما خفي من محاسني ، فيعرض عنها احتقارا ، فأتصباه بكل ما أملك من كلام عذب يخلب اللب ، ولين قول وخشوع صوت يرقق القلب ، فلا يصبو إلي ، وأمد عيني إلى محاسنه فيهما كل ما يكنه قلبي من صبابة وشوق وخلاعة ، مع فتور جفن ، وانكسار طرف ، وطول ترنيق وتحديق ، فلا يرفع إلي طرفا ، ولا يميل نحوي عطفا ، بل تتجلى فيه الروح الملكية بأظهر مجاليها ، والعبادة الإلهية بأكمل معانيها ، أمثل هذا الملك القاهر يسمى عبدا طائعا ، ومثل هذه المرأة المقهورة تسمى سيدة مالكة ، تأمر بل تسير فتطاع ، وينكر عليها أن تراود فترد ، ثم تريد إظهار سلطانها فتعجز ؟ لقد انكشف القناع ، فلا أمر لمن لا يطاع ، ( ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ) أي استمسك بعروة عصمته التي ورثها عمن نشئوا عليها ، كأنه يطلب مزيد الكمال منها .
ههنا أقول : والله ما عجبي من يوسف أن راودته مولاته فاستعصم ، وأن قالت له : ( ( هيت لك ) ) فقال : ( ( أعوذ بالله ) ) فكم قال هذا من ليس له مقامه في معرفته بالله ومراقبته لله ، وقد روي أن رجلا راود أعرابية في ليلة ليلاء ، وقال : إنه لا يرانا غير كواكب هذه السماء ، فقالت : وأين مكوكبها ؟
وإنما عجبي بل إعجابي بيوسف - عليه السلام - أن نظره إلى الله أو نظر الله إليه لم يدع في قلبه البشري مكانا خاليا لنظرات هذه العاشقة التي شغفها حبا ، لتصيبها له قبل أن يخونها صبرها فتنفره بمصارحتها ، وإن من أقوى غرائز البشر حب الإنسان لمن يعتقد أنه يحبه ، وإن كان مشغول القلب عنه بحب من لا يحبه ، كما قيل :
ونظرة المحبوب للمحب والله عن إنسان عين القلب
وأما الخالي فلا يكاد يسلم من تأثير التحبب في استمالته كما قالت : [ ص: 244 ] علية بنت المهدي العباسي
تحبب فإن الحب داعية الحب
فالحب أقوى غرائز البشر ، وأكبر ما يفتن الرجال بالنساء والنساء بالرجال ، وإن من الحب لصادقا وكاذبا ، وإن من العشق لعذريا عفيفا ، وشهويا فاسقا ، وإن مفاسده في الحضارة لكبيرة ، وإن فتنته لعظيمة ، وسنعقد له فصلا في باب العبرة بالقصة في إجمال تفسير السورة .
( ولئن لم يفعل ما آمره ) به ، أقسم لكن آكد الأيمان ، ولتسمع ذلك منه الأذنان ( ليسجنن وليكونن من الصاغرين ) أي الأذلة المقهورين ، تعني أن زوجها العزيز يعاقبه بما تريد من إلقائه في السجن وهو المدبر له المتولي لأمره ، ومن جعله كغيره من العبيد بعد تكريم مثواه وجعله كولده ، وهذا أشد مما أنذرته أولا إذ قالت لزوجها عند التقائهما به لدى الباب : ( ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم ) هنالك أنذرته أحد العقابين : سجن غير مؤكد ، أو عذاب أليم نكرة غير معرف ، قد يكون ذلك السجن المطلق بأخف صوره وأقلها ، والعذاب المنكر بأهون أنواعه وألطفها ، فذاك بحبسه في حجرة من الدار ، وهذا بلطمة يحتدم بها ما في خديه من الاحمرار ، وهنا أنذرته الجمع بينهما ، وأكدت السجن بالقسم وبنون التوكيد الثقيلة ، وفسرت العذاب بالصغار الذي تأباه الأنفس الكبيرة ، واكتفت فيه بالنون الخفيفة ، وهو أشق على مثل يوسف من العذاب الأليم بالأعمال الشاقة ؛ لأنها أهون على كرام الناس من الهوان والصغار باحتقار النفس ، وفعله صغر كتعب ، وأما صغر كضخم فهو خاص بصغر الجسم ، ومن الأول قوله - تعالى - : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون 9 : 29 .
وفي هذا التهديد من ثقة هذه المرأة بسلطانها على زوجها الوزير الكبير على علمه بأمرها ، واستعظامه لكيدها ، ما حقه أن يخيف يوسف من تنفيذ إرادتها ، ويثبت عنده عدم غيرته عليها ، كما هو شأن كثير من الوزراء المترفين ، ولا سيما العاجزين عن إحصان أزواجهن ، والمحرومين من نعمة الأولاد منهن ، وماذا فعل يوسف وما قال وقد علم أن هذه المرأة الماكرة قد عيل صبرها ، وهتكت سترها ، وكاشفت نسوة كبار بلدها بما تسر وما تعلن من أمرها ؟ ورأى أنهن تواطأن معها على كيدها ، وراودنه عن نفسه كما راودته عن نفسه ، وهو تواطؤ لا قبل لرجل به ، إلا بمعونة ربه وحفظه .