( يوسف - عليه السلام - في السجن ) : سيرة
هذه الآيات الثلاث في إظهار معجزة النبوة ، والتمهيد لدعوة الرسالة .
( ودخل معه السجن فتيان ) هذا عطف على مفهوم ما قبله ، أي فسجنوه ودخل معه السجن بتقدير الله الخفي الذي يعبر عنه جاهلوه بالمصادفة والاتفاق : فتيان مملوكان ، تبين فيما بعد أنهما من فتيان ملك مصر .
روي عن أن أحدهما خازن طعامه والآخر ساقيه ، فماذا كان من شأنه معهما ؟ ابن عباس قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا أي رأيت في المنام رؤيا واضحة جلية كأني أراها في اليقظة الآن وهي أنني أعصر خمرا ، أي عنبا ليكون خمرا لا ليشرب الآن ، وقراءة ابن مسعود وأبي في الشواذ ( ( أعصر عنبا ) ) تفسير لا قرآن ، وما كل العنب لأجل التخمير ، فما نقل من أن عرب غسان وعمان يسمون العنب خمرا ، فمحمول على هذا النوع المخصوص منه لكثرة مائه وسرعة اختماره ، دون ما يؤكل في الغالب تفكها لكبر حجمه واكتناز شحمه وقلة مائه ، ولكل منهما أصناف ( وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه ) الطير جمع واحده طائر ، وتأنيثه أكثر من تذكيره ، [ ص: 251 ] وجمع الجمع : طيور وأطيار ( نبئنا بتأويله ) أي قال له كل واحد منهما : نبئني بتأويل ما رأيت ، أي بتفسيره الذي يئول إليه في الخارج إذا كان حقا لا من أضغاث الأحلام ، ويصح إعادة الضمير المفرد على الكثير كاسم الإشارة بمعنى المذكور أو ما ذكر ومنه قول الراجز :
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجسم توليع البهق
( إنا نراك من المحسنين ) عللوا سؤالهم عن أمر يهمهم ويعنيهم دونه ، برؤيتهم إياه من المحسنين - بمقتضى غريزتهم - الذين يريدون الخير والنفع للناس ، وإن لم يكن لهم فيه منفعة خاصة ولا هوى ، وقيل : ( ( من المحسنين ) ) لتأويل الرؤى ، وما قالا هذا القول إلا بعد أن رأيا من سعة علمه وحسن سيرته مع أهل السجن ما وجه إليه وجوههما ، وعلق به أملهما . وهذا من إيجاز القرآن الخاص به .
افترض يوسف - عليه السلام - ثقة هذين السائلين بعلمه وفضله ، وإصغاءهما لقوله واهتمامهما بما يسمعان من تأويله لرؤاهما ، فبدأ حديثه بما هو أهم عنده وهو دعوتهما وسائر من في السجن إلى توحيد الله - عز وجل - فعلم من هذا أن وحي الرسالة جاءه بعد دخول السجن فحقق قوله : ( رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ) 33 كما أن وحي الإلهام جاءه عند إلقائه في غيابة الجب على ما سبق ، وحكمة هذا من ناحيته - عليه السلام - ظاهرة بما بيناه من أن الله - تعالى - جعل له في كل محنة ظاهرة ، منحة باطنة ، وفي كل بداية محرقة ، نهاية مشرقة ، تحقيقا لما فهمه أبوه من اجتباء ربه له إلخ . وحكمته من ناحية دعوة الدين أن أقوى الناس وأقربهم استعدادا لفهمها والاهتداء بها هم : الضعفاء والمظلومون والفقراء . وأعتاهم وأبعدهم عن قبولها هم : المترفون والمتكبرون ، بدأ يوسف بالدعوة بعد مقدمة في بيان الآية الدالة على صدقه والثقة بقوله ، وهي إظهار ما من الله به عليه من تعليمه ما شاء من أمور الغيب ، وأقربها إلى اقتناعهم ما يختص بمعيشتهم ، فكان هذا ما يقتضيه المقام وتوجبه الرسالة من جوابهم ، وهو :
( قال لا يأتيكما طعام ترزقانه ) وهو مالا تدرون ، وإني وإياكم في هذا السجن لمحجوبون ( إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ) أي أخبرتكما به وهو عند أهله ، وبما يريدون من إرساله وما ينتهي إليه بعد وصوله إليكما : أنبئكما بكل هذا من شأن هذا الطعام قبل أن يأتيكما .
روي أن رجال الدولة كانوا يرسلون إلى المجرمين أو المتهمين طعاما مسموما يقتلونهم به ، وأن يوسف أراد هذا ، وما قلته يشمل هذا إذا صح ، وهو ما يفهم من تسمية إنبائهما به تأويلا ، فإن التأويل الإخبار بما يئول إليه الشيء ، [ ص: 252 ] وهو فرع معرفته ، ولذلك قال بعضهم : إنه سماه تأويلا من باب المشاكلة لما سألاه عنه من تأويل رؤياهما ، وقال بعضهم : إن المراد : لا تريان في النوم طعاما يأتيكما إلا نبأتكما بتأويله ، وهو بعيد . وفسر ومن قلده ( ( تأويله ) ) ( ببيان ما هيئته وكيفيته ، لأن ذلك يشبه تفسير المشكل والإعراب عن معناه ) ا هـ . وهو تكلف سرى إليه من مفهوم التأويل في اصطلاح علماء الكلام وأصول الفقه لا من صميم اللغة ( الزمخشري ذلكما مما علمني ربي ) أي ذلك الذي أنبئكما به بعض ما علمني ربي بوحي منه إلي ، لا بكهانة ولا عرافة ولا تنجيم ، ولا ما يشبهها من طرق صناعية أو تعليم بشري يلتبس به الحق بالباطل ، ويشتبه الصواب بالخطأ ، فهو آية ، كقول عيسى لبني إسرائيل من بعده : ( وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ) 3 : 49 .
( إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله ) خالق السموات والأرض وما بينهما كما يجب له من التوحيد والتنزيه ، أي : تركت دخولها واتباع أهلها من عابدي الأوثان المنتحلة على كثرة أهلها ودعوتهم إليها ، وليس المعنى أنه كان متبعا لها ثم تركها ، فقوله - تعالى - : ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ) 75 : 36 ؟ أي بعد موته فلا يبعث ، ليس معناه أنه كان سدى قبله ، فترك الشيء يصدق بعدم ملابسته مطلقا ، وبالتحول عنه بعد التلبس به ، ويفرق بينهما بقرينة الحال أو المقال أو كليهما كما هنا .
والمتبادر أنه أراد بهؤلاء القوم : الكنعانيين وغيرهم من سكان أرض الميعاد التي نشأ فيها ، والمصريين الذين هو فيهم وبينهم ، فإنهم اتخذوا من دون الله آلهة معروفة في التاريخ ، أعظمها الشمس واسمها عندهم ( رع ) ومنها فراعنتهم والنيل وعجلهم ( أبيس ) وإنما كان التوحيد خاصا بحكمائهم وعلمائهم ( وهم بالآخرة هم كافرون ) أي وهم الآن يكفرون بالمعنى الصحيح للآخرة ، فإن المصريين وإن كانوا يؤمنون بالآخرة والحساب والجزاء الذي دعا إليه الأنبياء ، إلا أنه فشا فيهم تصوير هذا الإيمان بصور مبتدعة ، ومنها أن فراعنتهم يعودون إلى الحياة الأخرى بأجسادهم المحنطة ويعود لهم السلطان والحكم ، ولهذا كانوا يدفنون أو يضعون معهم جواهرهم وغيرها ، ويبنون الأهرام لحفظ جثثهم وما معها ، ولعله لهذا أكد الحكم بالكفر بها بإعادة الضمير ( ( هم ) ) ليبين أن إيمانهم بالآخرة على غير الوجه الذي جاءت به الرسل فهو غير صحيح .
( واتبعت ملة آبائي ) أنبياء الله الذين دعوا إلى توحيده الخالص ، وبين أسماءهم من الأب الأعلى إلى الأدنى بقوله : ( إبراهيم وإسحاق ويعقوب ) فلفظ الآباء يشمل الجدود وإن علوا ، وبين أساس ملتهم التي اتبعها وراثة وتلقينا فكانت يقينا له ولهم ووجدانا ، بقوله ما كان لنا أي ما كان من شأننا معشر الأنبياء ، ولا مما يقع منا [ ص: 253 ] ( أن نشرك بالله من شيء ) نتخذه ربا مدبرا أو إلها معبودا معه ، لا من الملائكة ولا من البشر ( كالفراعنة ) فضلا عما دونهما من البقر ( كالعجل أبيس ) أو من الشمس والقمر ، أو ما يتخذه لهذه الآلهة من التماثيل والصور ( ذلك من فضل الله علينا ) بهدايتنا إلى معرفته وتوحيده في ربوبيته وألوهيته بوحيه وآياته في خلقه وعلى الناس بإرسالنا إليهم ننشر فيهم دعوته ، ونقيم عليهم حجته ، ونبين لهم هدايته ( ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) نعم الله عليهم ، فهم يشركون به أربابا وآلهة من خلقه ، يذلون أنفسهم بعبادتهم ، وهم مخلوقون لله مثلهم أو أدنى منهم ، ثم صرح لهما ببطلان ما هما عليه من الشرك ونبههم إلى برهان التوحيد فقال :