يقول الله تعالى : يسألك أهل الكتاب ، هذا على سبيل التعنت ، والتعجيز ، لا بقصد طلب الحجة لأجل الاقتناع ، وإن تعجب أيها الرسول من سؤالهم ، وتستنكره وتستكبره عليهم فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ، سأله ذلك سلف هؤلاء الذين يسألونك أن تنزل عليهم كتابا من السماء ، وإنما الخلف والسلف في الصفات والأخلاق سواء ; لأن الأبناء ترث الآباء ، والإرث يكون على أشده وأتمه في أمثال هؤلاء اليهود الذين يأبون مصاهرة الغرباء ، على أن سنة القرآن ، في مخاطبة الأمم والحكاية عنها ، معروفة ، مما تقدم في شأن اليهود كغيرهم . وهو أن الأمة لتكافلها ، وتوارثها ، واتباع خلفها لسلفها تعد كالشخص الواحد فينسب إلى المتأخرين منها ما فعله المتقدمون ، ويمكن جريان الكلام هنا على طريق الحقيقة ، بصرف النظر عن هذه السنة ; وذلك أن كلا من السؤالين مسند إلى جنس أهل الكتاب ، وهو لا يقتضي أن يكون الأفراد الذين أسند إليهم السؤال الأول عين الأفراد الذين أسند إليهم السؤال الثاني .
[ ص: 12 ] إن سؤال هؤلاء القوم رؤية الله - تعالى - جهرة أكبر وأعظم من سؤالهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، وكل من السؤالين يدل على جهلهم أو عنادهم ، أما سؤال إنزال الكتاب فهو يدل على أحد أمرين : إما أنهم لا يفهمون معنى النبوة والرسالة على كثرة ما ظهر فيهم من الأنبياء ، والرسل ، ولا يميزون بين الآيات الصحيحة التي يؤيد الله بها رسله ، وبين سائر الأمور المستغربة ; كحيل السحر والشعوذة لمخالفتها للعادة ، وقد بينت لهم كتبهم أنه يقوم فيهم أنبياء كذبة ، وأن النبي يعرف بدعوته إلى التوحيد والحق والخير ، لا بمجرد آية أو أعجوبة يعملها ( كما نص على ذلك في أول الفصل الثالث عشر من سفر تثنية الاشتراع ، وغيره ) وإما أنهم معاندون يقترحون ما يقترحون تعجيزا ومراوغة . وأيا ما قصدوا من هذين الأمرين فلا فائدة في إجابتهم إلى ما سألوا ; كما قال - تعالى - في سورة الأنعام : ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ( 6 : 7 ) .
وأما سؤالهم رؤية الله جهرة ; أي عيانا ، كما يرى بعضهم بعضا ، فهو أدل على جهلهم وكفرهم بالله تعالى ; لأنهم ظنوا أنه جسم محدود تدركه الأبصار ، وتحيط به أشعة الأحداق ، وقد عوقبوا على جهلهم هذا ; فأخذتهم الصاعقة بظلمهم إذ شبهوا ربهم بأنفسهم ، فرفعوا أنفسهم إلى ما فوق مرتبتها ، وقدرها وما قدروا الله حق قدره ( 6 : 91 ) والصاعقة نار جوية ، تشتعل باتحاد الكهربائية الإيجابية بالسلبية ، وتقدم تفسير مثل هذا في سورة البقرة ، راجع آية 55 وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، في الجزء الأول ، وفيه أن هذه الواقعة معروفة في كتبهم ، وفيها التعبير بالنار بدل الصاعقة ، وربما يظن الظان أنها نار خلقها الله تعالى من العدم ، ولكن القرآن يبين لنا أنها من الصواعق المعتادة أرسلها الله عليهم عند ظلمهم هذا ، ولا يمنع ذلك أن تكون حدثت بأسبابها ، والله تعالى يوفق أقدارا لأقدار .