الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن جابر بن عبد الله في قوله : ( ومن الذين هادوا سماعون للكذب ) قال : يهود المدينة .

                          ( سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ) قال : يهود فدك .

                          ( يحرفون الكلم ) قال : يهود فدك يقولون ليهود المدينة : ( إن أوتيتم هذا ) الجلد ( فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ) الرجم .

                          وأما قوله تعالى : ( يحرفون الكلم من بعد مواضعه ) فمعناه يحرفون كلم التوراة من بعد وضعه في مواضعه ; إما تحريفا لفظيا بإبدال كلمة بكلمة ، أو بإخفائه وكتمانه ، أو الزيادة فيه والنقص منه ، وإما تحريفا معنويا بحمل اللفظ على غير ما وضع له .

                          ( يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ) أي يقولون لمن أرسلوهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليسألوه عن حكم الرجل والمرأة اللذين زنيا منهم ، وأرادوا أن يحابوهما بعدم رجمهما : إن أعطيتم من قبل محمد رخصة بالجلد عوضا عن الرجم فخذوه وارضوا به ، وإن لم تعطوه بأن حكم بأنهما يرجمان فاحذروا قبول ذلك والرضاء به ، وقد تقدم أنهم جاءوه ، فسألهم عن حد الزناة في التوراة ، فقالوا : نفضحهم ويجلدون ، وجاءوا بالتوراة فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، وقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك ، فرفع ، فإذا آية الرجم ، فاعترفوا بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ، وظهر كذبهم وعبثهم بكتاب شريعتهم . والإيتاء والإعطاء يستعمل في المعاني كغيرها .

                          قال الله تعالى في بيان حال هؤلاء العابثين بدينهم وفي أمثالهم : ( ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ) أي ومن تعلقت إرادة الله تعالى بأن يختبر في دينه فيظهر الاختبار كفره وضلاله ، كما يفتن الذهب بالنار ، فيظهر مقدار ما فيه من الغش والزغل ، فلن تملك [ ص: 323 ] أيها الرسول له من الله شيئا من الهداية والرشد ، كما أنك لا تستطيع أن تحول النحاس إلى الذهب ; لأن سنة الله تعالى لا تتبدل في معادن الناس ، ولا في معادن الأرض ، فهؤلاء المنافقون والمجاحدون من اليهود قد أظهرت لك فتنة الله واختباره إياهم درجة فسادهم ، وعلمت أنهم يقبلون الكذب دون الحق ، وأن إظهار بعضهم للإيمان ورؤيتهم لحسن حال المؤمنين وصلاحهم لم تؤثر في أنفسهم ، ورأيت كيف طوعت للآخرين أنفسهم التحريف والكتمان لأحكام كتابهم ; اتباعا لأهوائهم ، ومرضاة لأغنيائهم . فلا تحزنك بعد هذا مسارعتهم في الكفر ، ولا تطمع في جذبهم إلى الإيمان ; فإنك لا تملك لأحد هداية ولا نفعا ، وإنما عليك البلاغ والبيان . راجع تفسير ( ليس لك من الأمر شيء ) ( 3 : 128 ) ولا تخف عاقبة نفاقهم ؛ فإنما العاقبة للمتقين من أهل الإيمان ، ولهم الخزي والهوان ; ولذلك قال : ( أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ) أي أولئك الذين بلغت منهم الفتنة هذا الحد هم الذين لم تتعلق إرادة الله تعالى بتطهير قلوبهم من الكفر والنفاق ; لأن إرادته تعالى إنما تتعلق بما اقتضته حكمته البالغة وسننه العادلة ، ومن سننه في قلوب البشر وأنفسهم أنها إذا جرت على الباطل والشر ، ونشأت على الكيد والمكر ، واعتادت اتخاذ دينها شبكة لشهواتها وأهوائها ، ومردت على الكذب والنفاق ، وألفت عصبية الخلاف والشقاق ، وصار ذلك من ملكاتها الثابتة وأخلاقها الموروثة الثابتة ، تحيط بها خطيئتها ، وتطبق عليها ظلمتها ، حتى لا يبقى لنور الحق منفذ ينفذ منه إليها ; فتفقد قابلية الاستدلال والاستبصار في توفيق الأقدار للأقدار ، وهؤلاء الزعماء وأعوانهم من اليهود قد صبوا في قوالب تلك الصفات الرديئة صبا ، فلا تقبل طبائعهم سواها قطعا ، فهذا هو سبب عدم تعلق إرادة الله تعالى بأن يطهر قلوبهم مما طبع عليها ; لأن إرادته تطهير قلوبهم وهم متصفون بما ذكرنا ، إبطال للقدر ، وتبديل لما اقتضته الحكمة من السنن ، وكان أمر الله قدرا مقدورا ، لا أمرا أنفا ، ولن تجد لسنته تبديلا . ثم بين تعالى عاقبة هؤلاء المخذولين وجزاءهم ، فقال : ( لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) فأما العذاب في الآخرة فأمره معلوم ، وكنهه مجهول ، وأما خزي الدنيا فهو ما يلحقهم من الذل والفضيحة وهوان الخيبة عند ما ينكشف نفاقهم ويظهر للناس كذبهم ، ويعلو الحق على باطلهم ، وقد صدق وعيد الله تعالى بهذا الخزي على يهود الحجاز كلهم ، كما يصدق في كل زمان على من يفسدون كفسادهم ، فيفشو فيهم الكذب والنفاق ، ويغلب عليهم فساد الأخلاق ، ولا يغني عنهم الانتساب إلى نبي لم يتبعوه ، ولا تنفعهم دعوى الإيمان بكتاب لم يقيموه ; فإن الوعيد في الآية لم يوجه إلى أولئك اليهود لذواتهم وأعيانهم ; فذواتهم كسائر الذوات ، ولا لنسبهم [ ص: 324 ] وأرومتهم ; فنسبهم أشرف الأنساب ؛ وإنما هو وعيد على فساد القلوب الذي نشأ عنه فساد الأعمال ، فما بال الفاسدين المفسدين من المسلمين الجغرافيين أو السياسيين لا يعتبرون بما كان من خزي اليهود بخروجهم عن سنة أنبيائهم ، وبما حل من وعيد الله بهم ، على ما كان من حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على هداهم ، وهم يرون في كل زمن مصداقه بأعينهم ، أفلا يقيمون القرآن بالاعتبار بنذره ، والحذر مما حذر منه ؟

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية