( فصل في طعام الوثنيين ونكاح نسائهم )
أخذ الجماهير من مفهوم أهل الكتاب أن لا يحل للمسلمين ، وكذا طعام الوثنيين ، سواء منهم من يحتج بمفهوم المخالفة في اللقب ; نكاح نسائهم كالدقاق وبعض الشافعية ، ومن لا يحتج به وهم الجمهور . والقرآن لم يحرم طعام الوثنيين ولا طعام مشركي العرب مطلقا كما حرم نكاح نسائهم ، بل حرم ما أهل به لغير الله من ذبائحهم ، كما حرم ما كان يأكله بعضهم [ ص: 154 ] من الميتة ، والدم المسفوح ، وحرم لحم الخنزير ، واختلف الفقهاء في المجوس والصابئين ، فالصابئون عند أبي حنيفة كأهل الكتاب ، والمجوس كذلك عند خلافا للجمهور الذين يقولون : إنهم يعاملون معاملة أبي ثور أهل الكتاب في أخذ الجزية فقط ، ويروون في ذلك حديث : ولا يصح هذا الاستثناء ، كما صرح به المحدثون ، ولكنه اشتهر عند الفقهاء ، ويقال : إن الفريقين كانا سنوا بهم سنة أهل الكتاب ، غير آكلي ذبائحهم ولا ناكحي نسائهم أهل كتاب ، ففقدوه بطول الأمد .
وهذا ما كنت أعتقده قبل أن أرى فيه نقلا عن أحد من سلفنا وعلماء الملل والتاريخ منا ، وذكرته في المنار غير مرة ، ثم رأيت في كتاب ( الفرق بين الفرق ) لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي ( المتوفى سنة 429 ) في سياق الكلام على الباطنية : " إن المجوس يدعون نبوة زرادشت ، ونزول الوحي عليه من عند الله - تعالى - والصابئين يدعون نبوة ( هرمس ) و ( واليس ) ( ودوريتوس ) و ( أفلاطون ) وجماعة من الفلاسفة ، وسائر أصحاب الشرائع كل صنف منهم مقرون بنزول الوحي من السماء على الذين أقروا بنبوتهم ، ويقولون : إن ذلك الوحي شامل للأمر والنهي والخبر عن عاقبة الموت ، وعن ثواب وعقاب وجنة ونار يكون فيهما الجزاء عن الأعمال السالفة ، ثم ذكر أن الباطنية ينكرون ذلك .
وقد نشرنا في فتاوى المجلد الثاني عشر من المنار سؤالا من جاوه عن تزوج المسلم بغير المسلمة كالوثنية الصينية ، وأجبنا عنه بما نصه ( ص 261 ) .
ذهب بعض السلف إلى أنه لا يجوز للمسلم أن يتزوج بغير المسلمة مطلقا ، ولكن الجمهور من السلف والخلف على حل وحرمة الزواج بالمشركة ، ويريدون من الكتابية : اليهودية والنصرانية ، وأحل بعضهم المجوسية أيضا ، وبالمشركة : الوثنية مطلقا ، بل عدوا جميع الناس وثنيين ما عدا الزواج بالكتابية اليهود والنصارى ، ومن الناس من قال : إنهم من المشركين ، ولكن التحقيق أنهم لا يطلق عليهم لقب المشركين ; لأن القرآن عندما يذكر أهل الأديان يعد المشركين أو الذين أشركوا صنفا ، وأهل الكتاب صنفا آخر يعطف أحدهما على الآخر ، والعطف يقتضي المغايرة كما هو مقرر ، وكذا المجوس ، وسيأتي بيان ذلك .
والذي كان يتبادر إلى الذهن من مفهوم لفظ المشركين في عصر التنزيل مشركو العرب ; إذ لم يكن لهم كتاب ولا شبهة كتاب ، بل كانوا أميين .
والأصل في الخلاف في المسألة آيتان في القرآن ; إحداهما في سورة البقرة وهي قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ( 2 : 221 ) الآية ، والثانية في المائدة وهي قوله عز وجل : اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ( 5 : 5 ) وقد زعم [ ص: 155 ] من حرم التزوج بالكتابيات أن هذه الآية منسوخة بتلك ، وردوه بأن سورة المائدة نزلت بعد سورة البقرة ليس فيها منسوخ ، فإن فرضنا أن أهل الكتاب يدخلون في عداد المشركين ، يجب أن تكون آية المائدة مخصصة لآية البقرة ، مستثنية أهل الكتاب من عمومها ، وإلا فهي نص مستقل في جواز التزوج بنسائهم .
وقد سكت القرآن عن النص الصريح في حكم التزوج بغير المشركات والكتابيات من أهل الملل الذين لهم كتاب أو شبهة كتاب ; كالمجوس والصابئين ، ومثلهم البوذيون والبراهمة وأتباع ( كونفوشيوس ) في الصين ، وقد علمت أن علماءنا الذين حرص بعضهم على إدخال أهل الكتاب في عداد المشركين ، لا يترددون في إدخال هؤلاء كلهم في عموم المشركين ، وإن ورد في الكتاب والسنة ما هو صريح في التفرقة والمغايرة ، فكما غاير القرآن بين المشركين وأهل الكتاب خاصة في مثل قوله : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ( 98 : 1 ) وقوله : ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ( 3 : 186 ) وذكر أهل الكتاب بقسميهم في معرض المغايرة في قوله لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ( 5 : 82 ) الآية ، كذلك ذكر الصابئين والمجوس وعدهم صنفين غير أهل الكتاب والمشركين والمسلمين ، فقال في سورة الحج : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد ( 22 : 17 ) فهذا العطف في مقام تعداد أهل الملل يقتضي أن يكون كل من الصابئين والمجوس طائفتين مستقلتين ، ليستا من الصنف الذي يعبر عنه الكتاب بالمشركين وبالذين أشركوا ، وذلك أن كلا من الصابئين والمجوس عندهم كتب يعتقدون أنها إلهية ، ولكن بعد العهد وطول الزمان جعل أصلها مجهولا لنا ، ولا يبعد أن يكون من جاءوا بها من المرسلين ; لأن الله - تعالى - يقول : إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ( 35 : 24 ) وقال : إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ( 13 : 7 ) وإنما قويت فيهم الوثنية لبعد العهد بأنبيائهم على القاعدة المفهومة من قوله تعالى : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ( 57 : 16 ) ومعلوم أن فسق الكثير من أهل الكتاب عن هداية كتبهم ، ودخول نزغات الوثنية والشرك عليهم - لم يسلبهم امتيازهم في كتاب الله على المشركين ، وعدهم صنفا آخر ، كما أن فسق الكثيرين من المسلمين عن هداية القرآن ، ودخول نزغات الوثنية في عقائدهم ، لا يخرجهم من الصنف الذين يطلق عليه لفظ المسلمين ولفظ المؤمنين ، وإن كانوا هم الذين يعنيهم الخطباء [ ص: 156 ] على المنابر بقولهم : لم يبق من الإسلام إلا اسمه ، ويطبق العلماء عليهم حديث الصحيحين : اليهود والنصارى ؟ قال : " فمن ؟ " وبهذا يرد قول من حاولوا إدخال لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا : يا رسول الله أهل الكتاب في المشركين ، وتحريم التزوج بنسائهم ; مستدلين بقوله - تعالى - بعد ذكر اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله : سبحانه عما يشركون ( 9 : 31 ) فإن إطلاق اللقب على صنف من أصناف الناس ، لا يقتضي مشاركة صنف آخر له فيه إن أسند إليه مثل فعله ، كما بيناه في تفسير آية ولا تنكحوا المشركات ( 2 : 221 ) لا سيما إذا كان الفعل الذي أسند إلى الصنف الآخر ليس هو أخص صفاته ، وليس عاما شاملا لأفراده ; كاتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابا يتبعونهم فيما يحلون لهم ويحرمون عليهم ، فإن وصفهم الأخص اتباع الكتاب ، وإن كثيرين منهم يخالفون رؤساءهم في التحليل والتحريم ، ومنهم الموحدون كأصحاب ( آريوس ) عند النصارى ، وقد كثر في هذا الزمان فيهم الموحدون القائلون بنبوة المسيح بسبب الحرية في أوربة وأمريكة ، وكانوا قلوا باضطهاد الكنيسة لهم .
والظاهر أن القرآن ذكر من أهل الملل القديمة الصابئين والمجوس ، ولم يذكر البراهمة والبوذيين وأتباع كونفوشيوس ; لأن الصابئين والمجوس كانوا معروفين عند العرب الذين خوطبوا بالقرآن أولا ; لمجاورتهم لهم في العراق والبحرين ، ولم يكونوا يرحلون إلى الهند واليابان والصين فيعرفوا الآخرين ، والمقصود من الآية حاصل بذكر من ذكر من الملل المعروفة ، فلا حاجة إلى الإغراب بذكر من لا يعرفه المخاطبون في عصر التنزل من أهل الملل الأخرى ، ولا يخفى على المخاطبين بعد ذلك أن الله يفصل بين البراهمة والبوذيين وغيرهم أيضا .
ومن المعلوم أن القرآن صرح بقبول أهل الكتاب ، ولم يذكر أنها تؤخذ من غيرهم ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء رضي الله عنهم لا يقبلونها من مشركي العرب ، وقبلوها من المجوس في الجزية من البحرين وهجر وبلاد فارس ، كما في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث ، وقد روى أخذ النبي الجزية من مجوس هجر ، أحمد والبخاري وأبو داود وغيرهم ، من حديث والترمذي ، أنه شهد عبد الرحمن بن عوف لعمر بذلك عندما استشار الصحابة فيه ، وروى مالك عنه أنه قال : أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : والشافعي وفي سنده انقطاع ، واستدل به صاحب المنتقى وغيره على أنهم لا يعدون سنوا بهم سنة أهل الكتاب أهل الكتاب ، وليس بقوي ، فإن إطلاق كلمة " أهل الكتاب " على طائفتين من الناس لتحقق أصل كتبهما ولزيادة خصائصهما ، لا يقتضي أنه ليس في العالم أهل كتاب غيرهم ، مع العلم بأن الله بعث في كل أمة رسلا مبشرين ومنذرين ، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس [ ص: 157 ] بالقسط . كما أن إطلاق لقب " العلماء " على طائفة معينة من الناس لها مزايا مخصوصة ، لا يقتضي انحصار العلم فيهم وسلبه عن غيرهم .
وقد ورد في آيات أخرى التصريح بأنهم كانوا أهل الكتاب ، قال في نيل الأوطار عند قول صاحب المنتقى : " واستدل بقوله : ( سنة أهل الكتاب ) على أنهم ليسوا أهل كتاب " ما نصه : لكن روى الشافعي وعبد الرزاق ، وغيرهما بإسناد حسن عن علي ، كان المجوس أهل كتاب يدرسونه وعلم يقرءونه ، فشرب أميرهم الخمر فوقع على أخته ، فلما أصبح دعا أهل الطمع فأعطاهم وقال : إن آدم كان ينكح أولاده بناته ، فأطاعوه ، وقتل من خالفه ، فأسري على كتابهم وعلى ما في قلوبهم منه ، فلم يبق عندهم منه شيء . وروى في تفسير سورة البروج بإسناد صحيح عن عبد بن حميد ابن أبزى : لما هزم المسلمون أهل فارس قال عمر : اجتمعوا - أي قال للصحابة اجتمعوا للمشاورة ، كما هي السنة والفريضة اللازمة - فقال : إن المجوس ليسوا أهل كتاب فنضع عليهم الجزية ، ولا من عبدة الأوثان فتجري عليهم أحكامهم ، فقال علي : بل هم أهل كتاب . فذكر نحوه ، لكن قال : فوقع على ابنته ، وقال في آخره : فوضع الأخدود لمن خالفه . فهذه حجة من قال كان لهم كتاب ، وأما قول : لو كان لهم كتاب ورفع لرفع حكمه ، لما استثني حل ذبائحهم ونكاح نسائهم ، فالجواب : أن الاستثناء وقع تبعا للأمر الوارد ; لأن في ذلك شبهة تقتضي حقن الدم ، بخلاف النكاح فإنه يحتاط له ، وقال ابن بطال ابن المنذر : ليس تحريم نكاحهم وذبائحهم متفقا عليه ، ولكن الأكثر من أهل العلم عليه . اهـ .
إذا علمت هذا تبين لك أن العلماء لم يجمعوا على أن لفظ المشركين والذين أشركوا يتناول جميع الذين كفروا بنبينا ولم يدخلوا في ديننا ، ولا جميع من عدا اليهود والنصارى منهم ، فهذا نقل صحيح في المجوس ، ومنه تعلم أن للاجتهاد مجالا لجعل لفظ المشركات والمشركين في القرآن خاصا بوثنيي العرب ، وأن يقاس عليهم من ليس لهم كتاب ولا شبهة كتاب يقربهم من الإسلام ، كما أن أهل الكتاب فيه خاص باليهود والنصارى ، ويقاس عليهم من عندهم كتب لا يعرف أصلها ، ولكنها تقربهم من الإسلام بما فيها من الآداب والشرائع ; كالمجوس وغيرهم ممن على شاكلتهم ، وقد صرح قتادة من مفسري السلف بأن المراد بالمشركين والمشركات في الآية : العرب . كما سيأتي .
وعلى هذا لا يكون قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ( 2 : 221 ) نصا قاطعا في تحريم الذي أكثر منه المسلمون في الصين ، وانتقل الاقتداء بهم فيه إلى جاوه أو كاد ، وقد كان ذلك من أسباب انتشار الإسلام في الصين ، ولا أدري مبلغ أثره في ذلك عندكم ( الخطاب للمستفتي ) وبنفي كونه نصا قاطعا في ذلك لا يكون استحلاله كفرا وخروجا من الإسلام ، وإلا لساغ لنا أن نحكم بكفر من لا يحصى من مسلمي الصين . نكاح الصينيات
[ ص: 158 ] هذا ، وإن المشهور عند العلماء أن الأصل في النكاح الحرمة ، وإن كان الأصل في سائر الأشياء الإباحة ، وعلى هذا لا بد من النص في الحل ، ويمكن أن يقال : إذا لم نقل بأن هذا يدخل في القاعدة العامة : " إن الأصل الإباحة في كل شيء حتى يرد النص بحظره " فإننا نرد الأمر إلى الكتاب العزيز ، فنسمعه يقول بعد النهي عن نكاح أزواج الآباء : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين ( 4 : 23 ، 24 ) الآية .
فنقول على أصولهم : إن قوله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم ( 4 : 24 ) لا يخلو أن يكون قد نزل بعدما جاء في البقرة من النهي عن نكاح المشركات ، وفي سورة النور من تحريم نكاح المشركة والزانية أو قبله ، فإن كان نزل بعده صح أن يكون ناسخا له ، وإن كان نزل قبله يكون تحريم نكاح المشركة والزانية مستثنى من عموم وأحل لكم ما وراء ذلكم بطريق التخصيص ، سواء سمي نسخا أم لا ، كما يستثنى منه ما ورد في الحديث ; من منع ، قياسا على تحريم الجمع بين الأختين أو إلحاقا به ، وجعل ما يحرم من الرضاع كالذي يحرم من النسب ، على القول المشهور في الأصول بجواز الجمع بين البنت وعمتها أو خالتها ، على أن الجمهور أحلوا تخصيص القرآن بالسنة . وعلى كل حال يكون نكاح الكتابيات ومن في حكمهن كالمجوسيات عند من قال بذلك كما نقل التزوج بالزانية الحافظ ابن المنذر داخلا في عموم نص وأحل لكم ما وراء ذلكم وأكد حل نكاح الكتابيات في سورة المائدة التي نزلت بعد ما تقدم كله .