( صفوة الخلاف بين الفقهاء ، والمختار منه في
nindex.php?page=treesubj&link=16962_27931_16965طعام أهل الكتاب ) من تأمل ما نقلناه من كتب المذاهب الأربعة المشهورة ، وما تخلله وسبقه من كلام غيرهم من أئمة السلف يظهر له أن المتفق عليه أنه يحرم علينا من طعام أهل الكتاب ما حرم علينا ، في ديننا لذاته ، وهو الميتة ولحم الخنزير ، وكذا الدم المسفوح قطعا ، وإن لم يذكر فيما تقدم من النقل
[ ص: 179 ] ولا نعلم أن أحدا منهم يأكله أو يشربه ، وكذلك الميتة كلهم يحرمونها ، ولحم الخنزير محرم بنص التوراة إلى اليوم ، وقد استباحه
النصارى بإباحة مقدسهم
بولس . وقد اختلف الفقهاء فيما عدا ذلك كما علمت ، فكل ما أكلناه مما عدا ذلك من طعامهم نكون موافقين فيه لقول بعض فقهائنا الذين شدد بعضهم وخفف بعض في هذه المسائل ، وأشد الفقهاء تشديدا في ذلك وفي أكثر الأحكام ، الشافعية . ومن تأمل أدلة الجميع رأى أن أظهرها قول الذين أخذوا بعموم قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=5وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ولم يخصصوه بذبائحهم ، فضلا عن تخصيصه بحبوبهم ;
كالشيعة ، ولا يشترط في حل طعامهم أن يأكل منه أحبارهم ورهبانهم كما قال
ابن العربي ، واختاره شيخنا الأستاذ الإمام مفتي
مصر في الفتوى الترنسفالية ، فهو تشديد لا مستند له في غير ما أهل به لغير الله ، إلا الثقة بأن يكون ما يأكلونه غير محرم عليهم في كتبهم ، وقد نسخت شريعتنا كتبهم كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وغيره ، فلا عبرة بما حرم عليهم فيها ، وقد قال الله - تعالى - في صفات خاتم النبيين
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=157ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ( 7 : 157 ) ولا يشترط أيضا أن يكون طعامهم موافقا لشريعتنا سواء كانوا مخاطبين بفروعها قبل الإيمان كما يقول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، أو غير مخاطبين بها إلا بعد الإيمان ، كما يقول الجمهور ; إذ لو كان هذا شرطا لما كان لإباحة طعامهم فائدة .
قال
ابن رشد في بداية المجتهد ، ما نصه : " ومن فرق بين ما حرم عليهم ، من ذلك في أصل شرعهم وما حرموا على أنفسهم ، قال : ما حرم عليهم هو أمر حق فلا تعمل فيه الذكاة ، وما حرموا على أنفسهم أمر باطل ، فتعمل فيه التذكية . قال القاضي : والحق أن ما حرم عليهم أو حرموه على أنفسهم هو في وقت شريعة الإسلام أمر باطل ; إذ كانت ناسخة لجميع الشرائع ، فيجب ألا يراعى اعتقادهم في ذلك ، ولا يشترط أيضا أن يكون اعتقادهم في تحليل الذبائح اعتقاد المسلمين ولا اعتقاد شريعتهم ; لأنه لو اشترط ذلك لما جاز أكل ذبائحهم بوجه من الوجوه ; لكون اعتقاد شريعتهم في ذلك منسوخا ، واعتقاد شريعتنا لا يصح منهم ، وإنما هذا حكم خصهم الله - تعالى - به ، فذبائحهم ، والله أعلم ، جائزة على الإطلاق ، وإلا ارتفع حكم آية التحليل جملة ، فتأمل هذا فإنه بين ، والله أعلم . انتهى .
والأمر كما قال القاضي ، رحمه الله تعالى . ومراده بذبائحهم مذكاهم كيفما كانت تذكيته عندهم ، وقد تقدم تحقيق
nindex.php?page=treesubj&link=16915معنى التذكية وأنها عبارة عن قتل الحيوان بقصد أكله ، وأقوال علماء السلف ومحققي المالكية في ذلك ، فلله در
مالك والمالكية ، إن كلامهم في هذه المسألة أظهر من كلام مخالفيهم دليلا ، وأليق بيسر الحنيفية السمحة . ومن العجائب أن كثيرا من الناس يحبون أن تكون الشريعة عسرا لا يسرا وحرجا لا سعة ، وإن هم لم يلتزموها إلا فيما يوافق أهواءهم ، فمن شدد على نفسه فذاك ذنب عقابه فيه ، ومن شدد على الأمة حثونا التراب في فيه ، والله أعلم وأحكم .
( صَفْوَةُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ ، وَالْمُخْتَارُ مِنْهُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=16962_27931_16965طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ ) مَنْ تَأَمَّلَ مَا نَقَلْنَاهُ مِنْ كُتُبِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ الْمَشْهُورَةِ ، وَمَا تَخَلَّلَهُ وَسَبَقَهُ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ يَظْهَرُ لَهُ أَنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْنَا مِنْ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا حُرِّمَ عَلَيْنَا ، فِي دِينِنَا لِذَاتِهِ ، وَهُوَ الْمَيْتَةُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ، وَكَذَا الدَّمُ الْمَسْفُوحُ قَطْعًا ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّقْلِ
[ ص: 179 ] وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يَأْكُلُهُ أَوْ يَشْرَبُهُ ، وَكَذَلِكَ الْمَيْتَةُ كُلُّهُمْ يُحَرِّمُونَهَا ، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ مُحَرَّمٌ بِنَصِّ التَّوْرَاةِ إِلَى الْيَوْمِ ، وَقَدِ اسْتَبَاحَهُ
النَّصَارَى بِإِبَاحَةِ مُقَدَّسِهِمْ
بُولِسْ . وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ كَمَا عَلِمْتَ ، فَكُلُّ مَا أَكَلْنَاهُ مِمَّا عَدَا ذَلِكَ مِنْ طَعَامِهِمْ نَكُونُ مُوَافِقِينَ فِيهِ لِقَوْلِ بَعْضِ فُقَهَائِنَا الَّذِينَ شَدَّدَ بَعْضُهُمْ وَخَفَّفَ بَعْضٌ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ ، وَأَشَدُّ الْفُقَهَاءِ تَشْدِيدًا فِي ذَلِكَ وَفِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ ، الشَّافِعِيَّةُ . وَمَنْ تَأَمَّلَ أَدِلَّةَ الْجَمِيعِ رَأَى أَنَّ أَظْهَرَهَا قَوْلُ الَّذِينَ أَخَذُوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=5وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَلَمْ يُخَصِّصُوهُ بِذَبَائِحِهِمْ ، فَضْلًا عَنْ تَخْصِيصِهِ بِحُبُوبِهِمْ ;
كَالشِّيعَةِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي حِلِّ طَعَامِهِمْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ أَحْبَارُهُمْ وَرُهْبَانُهُمْ كَمَا قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مُفْتِي
مِصْرَ فِي الْفَتْوَى التِّرِنْسِفَالِيَّةِ ، فَهُوَ تَشْدِيدٌ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ فِي غَيْرِ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ، إِلَّا الثِّقَةَ بِأَنْ يَكُونَ مَا يَأْكُلُونَهُ غَيْرَ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِمْ فِي كُتُبِهِمْ ، وَقَدْ نَسَخَتْ شَرِيعَتُنَا كُتُبَهُمْ كَمَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ وَغَيْرَهُ ، فَلَا عِبْرَةَ بِمَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ فِيهَا ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي صِفَاتِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=157وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ( 7 : 157 ) وَلَا يُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ طَعَامُهُمْ مُوَافِقًا لِشَرِيعَتِنَا سَوَاءٌ كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِهَا قَبْلَ الْإِيمَانِ كَمَا يَقُولُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ ، أَوْ غَيْرَ مُخَاطَبِينَ بِهَا إِلَّا بَعْدَ الْإِيمَانِ ، كَمَا يَقُولُ الْجُمْهُورُ ; إِذْ لَوْ كَانَ هَذَا شَرْطًا لَمَا كَانَ لِإِبَاحَةِ طَعَامِهِمْ فَائِدَةٌ .
قَالَ
ابْنُ رُشْدٍ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ ، مَا نَصُّهُ : " وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ ، مِنْ ذَلِكَ فِي أَصْلِ شَرْعِهِمْ وَمَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، قَالَ : مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ هُوَ أَمْرٌ حَقٌّ فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ الذَّكَاةُ ، وَمَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَمْرٌ بَاطِلٌ ، فَتَعْمَلُ فِيهِ التَّذْكِيَةُ . قَالَ الْقَاضِي : وَالْحَقُّ أَنَّ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ أَوْ حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ هُوَ فِي وَقْتِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ أَمْرٌ بَاطِلٌ ; إِذْ كَانَتْ نَاسِخَةً لِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ ، فَيَجِبُ أَلَّا يُرَاعَى اعْتِقَادُهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَلَا يُشْتَرَطَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُمْ فِي تَحْلِيلِ الذَّبَائِحِ اعْتِقَادَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا اعْتِقَادَ شَرِيعَتِهِمْ ; لِأَنَّهُ لَوِ اشْتُرِطَ ذَلِكَ لَمَا جَازَ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ; لِكَوْنِ اعْتِقَادِ شَرِيعَتِهِمْ فِي ذَلِكَ مَنْسُوخًا ، وَاعْتِقَادُ شَرِيعَتِنَا لَا يَصِحُّ مِنْهُمْ ، وَإِنَّمَا هَذَا حُكْمٌ خَصَّهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - بِهِ ، فَذَبَائِحُهُمْ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، جَائِزَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَإِلَّا ارْتَفَعَ حُكْمُ آيَةِ التَّحْلِيلِ جُمْلَةً ، فَتَأَمَّلْ هَذَا فَإِنَّهُ بَيِّنٌ ، وَاللَّهٌ أَعْلَمُ . انْتَهَى .
وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ الْقَاضِي ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَمُرَادُهُ بِذَبَائِحِهِمْ مُذَكَّاهُمْ كَيْفَمَا كَانَتْ تَذْكِيَتُهُ عِنْدَهُمْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ
nindex.php?page=treesubj&link=16915مَعْنَى التَّذْكِيَةِ وَأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ قَتْلِ الْحَيَوَانِ بِقَصْدِ أَكْلِهِ ، وَأَقْوَالُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَمُحَقِّقِي الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ ، فَلِلَّهِ دَرُّ
مَالِكٍ وَالْمَالِكِيَّةِ ، إِنَّ كَلَامَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ مُخَالِفِيهِمْ دَلِيلًا ، وَأَلْيَقُ بِيُسْرِ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ . وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُحِبُّونَ أَنْ تَكُونَ الشَّرِيعَةُ عُسْرًا لَا يُسْرًا وَحَرَجًا لَا سِعَةً ، وَإِنْ هُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوهَا إِلَّا فِيمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ ، فَمَنْ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ فَذَاكَ ذَنْبٌ عِقَابُهُ فِيهِ ، وَمَنْ شَدَّدَ عَلَى الْأُمَّةِ حَثَوْنَا التُّرَابَ فِي فِيهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .