أما تفسير الآية فهو ما ترى : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ) أي إن جزاء الذين يفعلون ما ذكر محصور فيما يذكر بعده من العقوبات على سبيل الترتيب والتوزيع على جناياتهم ومفاسدهم ، لكل منها ما يليق بها من العقوبة .
مفاعلة من الحرب ، وهي ضد السلم ، والسلم السلام ; أي السلامة من الأذى والضرر والآفات ، والأمن على النفس والمال ، والأصل في معنى كلمة الحرب التعدي وسلب المال . لسان العرب : الحرب بالتحريك ، أن يسلب الرجل ماله ، حربه يحربه ( بوزن طلب ، وكذا بوزن تعب ) إذا أخذ ماله ، فهو محروب وحريب ، من قوم حربى وحرباء ، ثم قال : حريبة الرجل ماله الذي يعيش به ، والحرب بالتحريك أخذ الحريبة ; فهو أن يأخذ ماله ويتركه بلا شيء يعيش به ، انتهى . فأنت ترى أن الحرب والمحاربة ليس مرادفا للقتل والمقاتلة ، وإنما الأصل فيها الاعتداء والسلب وإزالة الأمن ، وقد يكون ذلك بقتل وقتال ، وبدونهما . وقد ذكر القتل والقتال في القرآن في أكثر من مائة آية . وأما المحاربة فلم تذكر إلا في هذه وفي قوله تعالى في بيان علة بناء المنافقين والمحاربة لمسجد الضرار : ( وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ) ( 9 : 107 ) . قال رواة التفسير المأثور : أي ترقبا وانتظارا للذي حارب الله ورسوله ، من قبل بناء هذا المسجد ، وهو أبو عامر الراهب [ ص: 295 ] ; فإنه كان شديد العداوة للإسلام ، ووعد المنافقين بأن يذهب ويأتيهم بجنود من عند قيصر للإيقاع بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، فمحاربة هذا الراهب من قبل كانت بإثارة الفتن ، لا بالقتال والنزال ، وأما لفظ " الحرب " فقد ذكر في أربعة مواضع من أربع سور ; منها إعلام المصرين على الربا بأنهم في حرب لله ورسوله بأكلهم أموال الناس بالباطل ، والباقي بالمعنى المشهور ، وهو ضد السلم . وكان أهل البوادي - ولا يزالون - يغزو بعضهم بعضا لأجل السلب والنهب ، وقد جعل الفقهاء كتاب المحاربة - ويقولون أيضا - غير كتاب الجهاد والقتال . وجعلوا الأصل فيها هاتين الآيتين ، وعرفوها بأنها إشهار السلاح وقطع السبيل ، واشترط بعضهم الحرابة أن يكون ذلك من أهل الشوكة . كالشافعي
( كالذين يؤلفون العصابات المسلحة للسلب والنهب وقتل من يعارضهم ، أو لمقاومة السلطة ; ابتغاء الفتنة والفساد ) واشترطوا فيها شروطا سنشير إلى المهم منها .
أما كون هذا النوع من العدوان محاربة لله ولرسوله فلأنه اعتداء على شريعة السلم والأمان والحق والعدل الذي أنزله الله على رسوله . فمحاربة الله ورسوله هي عدم الإذعان لدينه وشرعه في حفظ الحقوق ، كما قال تعالى في المصرين على أكل الربا : ( فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) ( 2 : 279 ) وليس معناه محاربة المسلمين ، كما قال بعض المفسرين : فمن لم يذعنوا للشرع فيما يخاطبهم به في دار الإسلام يعدون محاربين لله ورسوله عليه السلام فيجب على الإمام الذي يقيم العدل ويحفظ النظام أن يقاتلهم على ذلك ، كما فعل رضي الله عنه بمانعي الزكاة ، حتى يفيئوا ويرجعوا إلى أمر الله ، ومن رجع منهم في أي وقت يقبل منه ويكف عنه ، ولكن إذا امتنعوا على إمام العدل المقيم للشرع ، وعثوا إفسادا في الأرض ، كان جزاؤهم ما بينه الله في هذه الآية ، فقوله تعالى : ( الصديق ويسعون في الأرض فسادا ) متمم لما قبله ; أي يسعون فيها سعي فساد أو مفسدين في سعيهم لما صلح من أمور الناس في نظام الاجتماع وأسباب المعاش .
والفساد ضد الصلاح ، فكل ما يخرج عن وضعه الذي يكون به صالحا نافعا ، يقال إنه قد فسد ، ومن عمل عملا كان سببا لفساد شيء من الأشياء يقال إنه أفسده ، فإزالة الأمن على الأنفس أو الأموال أو الأعراض ، ومعارضة تنفيذ الشريعة العادلة وإقامتها ، كل ذلك إفساد في الأرض . روى عبد بن حميد عن وابن جرير مجاهد أن الفساد هنا الزنا والسرقة وقتل النفس ، وإهلاك الحرث والنسل ، وكل هذه الأعمال من الفساد في الأرض . واستشكل بعض الفقهاء قول مجاهد بأن هذه الذنوب والمفاسد لها عقوبات في الشرع غير ما في الآية ، فللزنا والسرقة والقتل حدود ، وإهلاك الحرث والنسل يقدر بقدره ، ويضمنه [ ص: 296 ] الفاعل ويعزره الحاكم بما يؤديه إليه اجتهاده ، وفات هؤلاء المعترضين أن العقاب المنصوص في الآية خاص بالمحاربين من المفسدين الذين يكاثرون أولي الأمر ، ولا يذعنون لحكم الشرع ، وتلك الحدود إنما هي للسارقين والزناة أفرادا ، الخاضعين لحكم الشرع فعلا ، وقد ذكر حكمهم في الكتاب العزيز ، بصيغة اسم الفاعل المفرد كقوله : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) ( 5 : 38 ) و ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ( 24 : 2 ) وهم يستخفون بأفعالهم ولا يجهرون بالفساد حتى ينتشر بسوء القدوة بهم ، ولا يؤلفون له العصائب ليمنعوا أنفسهم من الشرع بالقوة ، فلهذا لا يصدق عليهم أنهم محاربون الله ورسوله ومفسدون ، والحكم هنا منوط بالوصفين معا ، وإذا أطلق الفقهاء لفظ المحاربين فإنما يعنون به المحاربين المفسدين ; لأن الوصفين متلازمان .
ولا تتحقق محاربة الله ورسوله بمحاربة الشرع ، ومقاومة تنفيذه وإفساد النظام على أهله إلا في دار الإسلام ، وللكفار في دار الحرب أحكام أخرى كما قال الفقهاء ، وأحكامهم تذكر في كتاب الجهاد ، لا في كتاب المحاربة أو الحرابة كما تقدم ، وقد فطن لهذا المعنى بعضهم ، ولم يتضح له تمام الاتضاح ، فاشترط أن يكون المحاربون المفسدون من المسلمين كما تقدم ، والصواب أن يكون إفسادهم في دار الإسلام . ولا فصل حينئذ فيهم بين أن يكونوا مسلمين أو ذميين أو معاهدين أو حربيين . كل من قدرنا عليه منهم نحكم بينهم بهذه الآية .