أما ذلك الجزاء الذي يعاقب به أمثال هؤلاء المفسدين بالقوة فهو ( أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ) . : هو التكثير ، أو التكرار ، أو المبالغة في القتل ، فأما معنى التكرار أو التكثير فلا يظهر إلا باعتبار الأفراد ، كأنه يقول : كلما ظفرتم بمن يستحق القتل منهم فاقتلوه ، وأما المبالغة فتظهر بكون القتل حتما لا هوادة فيه ، ولا عفو من ولي الدم ، وقد صرح بعض الفقهاء بأن التقتيل نقتله ، وإن عفا عنه ولي الدم أو رضي بالدية . المحاربين المفسدين إذا قدرنا على القاتل منهم : التكرار أو المبالغة في الصلب ، فيقال فيه ما قيل في التقتيل ، ويمكن تكرار صلب الواحد على قول [ ص: 298 ] من قال : إن الصلب يكون بعد القتل لأجل العبرة ، فيصلب المجرم في النهار ، وتحفظ جثته ليلا ، ثم يصلب في النهار ، قال والتصليب : يصلب بعد القتل ثلاثة أيام ، والظاهر أنهم يصلبون أحياء ليموتوا بالصلب كما قال الجمهور ، وإلا لم يكن الصلب عقوبة ثانية ، وأصل معنى الصلب بالتحريك الشافعي : الودك ( الدهن ) أو ودك العظام التي يعد صلب الظهر جذع شجرتها ، والصديد الذي يخرج من بدن الميت . قال في اللسان : والصلب مصدر صلبه يصلبه - بكسر اللام - صلبا ، وأصله من الصليب ، وهو الودك أو الصديد ، والصلب هذه القتلة المعروفة مشتق من ذلك ، وقد صلبه يصلبه صلبا ، وصلبه شدد للتكثير . . . والصليب : المصلوب . انتهى . ويعني بالقتلة المعروفة أن يربط الشخص على خشبة أو نحوها ، منتصب القامة ممدود اليدين حتى يموت ، وكانوا يطعنون المصلوب ليعجلوا موته ، والشكل الذي يشبه المصلوب يسمى صليبا . والصليب في اللغة
وأما ، فمعناه إذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى ، وفي هذا نوع ما من التكرار ، فصيغة التفعيل فيه أظهر مما قبله . وما قطع من يد أو رجل يحسم في الحال كما جرى عليه العمل ، تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف : كي العضو المقطوع بالنار أو بالزيت وهو يغلي ; لكيلا يستنزف الدم ويموت صاحبه ، وفي معنى الحسم كل علاج يحصل به المراد ، وربما كان الأفضل ما كان أسرع تأثيرا وأقل إيلاما وأسلم عاقبة ، عملا بحديث " والحسم " رواه إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن . شداد بن أوس
وأما فيحتمل لفظ الآية فيه أن يكون عقوبة معطوفة على ما قبلها ، وأن يكون " أو " بمعنى " إلا أن " أي جزاؤهم ما ذكر قبل ، إلا أن ينفوا من الأرض بالمطاردة ، ويخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب التي لا حكم ولا سلطان للإسلام فيها ، وهذا قول النفي من الأرض ، رواه ابن عباس عنه وعن ابن جرير وعن السدي الليث بن سعد أنهم يطلبون حتى يؤخذوا أو يضطرهم الطلب إلى دار الكفر والحرب إذا كانوا مرتدين ، وأن المسلم لا يضطر إلى الدخول في دار الكفر ، والمعنى على القول الأول المختار أن ينفى المحاربون من بلدهم أو قطرهم الذي أفسدوا فيه إلى غيره من بلاد الإسلام ; أي إذا كانوا مسلمين ، فإذا كانوا كفارا جاز نفيهم إلى بعض بلاد الإسلام وإلى بلاد الكفر ; لأن لفظ الأرض في الآية يحتمل أن يكون التعريف فيه لبلاد الإسلام ، وأن يكون لما وقع فيه الفساد منها . وحكمة نفيهم إلى غير تلك الأرض وراء كون النفي عقابا ظاهرة ; وهي أن بقاءهم في الأرض التي أفسدوا فيها يذكرهم ، ويذكر أهلها دائما بما كان منهم ، وهي [ ص: 299 ] ذكرى سيئة قد تعقب ما لا خير فيه . وروى ومالك بن أنس هذا التفسير للنفي عن ابن جرير سعيد بن جبير ، وقيل : ينفى إلى بلد آخر ، فيسجن فيه إلى أن تظهر توبته ، وهو رواية وعمر بن عبد العزيز ابن القاسم عن مالك ، وقيل : إن النفي هو السجن ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وهو أغرب الأقوال ، فالحبس عقوبة غير عقوبة النفي والإخراج من الأرض ، تحتاج إلى دليل ، والمقام مقام بيان حدود الله ، لا التعزير المفوض إلى أولي الأمر ، وقد ورد ذكر العقوبتين في بيان الله لنبيه ما كان يكيد له المشركون بمكة ، وذلك قوله تعالى في سورة الأنفال : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ) ( 8 : 30 ) روى أصحاب التفسير المأثور أن عمه أبا طالب سأله : هل تدري ما ائتمروا بك ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني " .